كل شي واقف بهالبلد»، هي العبارة السحرية التي يتناقلها اللبنانيون في ما بينهم يومياً منذ ثلاث سنوات. فتردي الأوضاع الأمنية والسياسية، دفع بالمواطنين إلى التوقّف عن ملاحقة مشاريعهم وأحلامهم ريثما تتوضّح معالم المرحلة المقبلة. ورغم الهدوء النسبي الذي يشهده لبنان مؤخراً، ينتظر أغلب المواطنين تطمينات «أكثر جديّة» لمتابعة حياتهم بشكل طبيعي
ليال حدّاد
تهمس حنان خطّار بصوت منخفض خوفاً من أن تسمعها أمها في الغرفة المجاورة، «مش رح نتزوّج بالصيف». لقد فضلت حنان وخطيبها تأجيل مشروع الزفاف بانتظار تبلور الوضع السياسي والأمني في البلد. ولعبارة «تبلور الوضع» مفهوم خاص بالنسبة إلى الفتاة العشرينية، ويمكن اختصاره بانخفاض أسعار الشقق السكنية، إيجاد وظيفة إضافية لخطيبها، والوصول إلى اتفاق سياسي «حقيقي لا شبيه باتفاق الدوحة». تدرك حنان أن ما تطلبه قد يكون تعجيزياً لكنها ترفض أن تدخل في «مشروع حياة» كما تقول والبلد على حافة حرب أهلية مؤجلة. إلا أن عائقاً أساسياً يقف أمام هذا التأجيل «ماذا سأقول لوالديّ؟»، فأهل حنان يرفضون أن تستمرّ خطبتها مدة طويلة، «كل ما يهمّهم هو كلام الجيران والعائلة»، غير أن الشابة اتخذت قرارها «مش رح إخرب حياتي بحجة حكي العالم»، ومشكلة أهلها ستجد لها حلاً عاجلاً أم آجلاً.
وإذا كان زفاف حنان المؤجّل مشكلة، فإنّ شهادة ريتا الصايغ تبدو مشكلة أكبر. «شو بدي أعمل يا ربي؟» عبارة باتت طالبة علم النفس تستعملها عشرات المرات في اليوم الواحد. كانت ريتا قد قررت أنها ستتسجّل هذا العام في إحدى الجامعات الخاصة لتكمل دراساتها العليا، إلا أن أحداث 7 أيار الأخيرة جعلتها تتردّد في هذه الخطوة «واليوم انتهت فترة التسجيل ولم أحجز لنفسي مكاناً». تشعر الفتاة بأنها أخطأت في خطوتها «ولكن خشيت أن تتكرّر الأحداث وتقفل الجامعات، ماذا سأفعل». والسبب الرئيسي الذي جعلها تخطو هذه الخطوة هو مكان سكنها وموقع الجامعة، فبيتها في «الشرقية» والجامعة في القالب الآخر من العاصمة «وإذا علقت شو بعمل؟». و«فوبيا» تكرار الأحداث الأمنية تلازم ريتا في كل خطواتها، فهي حتى لا تتجرأ على التقدم بطلبات عمل رغم أن عدداً من المدارس أعلنت عن حاجتها لطلاب علم نفس كما علمت من أصدقائها الذين يعملون في هذا المجال.
وعن العمل أيضاً، توقّف زياد عبيد عن البحث عن وظيفة في مكتب هندسة آخر، رغم تذمّره الدائم من راتبه الحالي «بس شو بعمل؟ بلكي لقيت شغل جديد ورجعوا زعبوني؟». إنّه الخوف إذاً، الذي يلازم قسماً كبيراً من اللبنانيين. خوف من أي تغيير قد يطرأ على حياتهم في ظلّ الأوضاع الحالية، «لا أعرف ما هو مستقبل البلد، ولا أعرف ماذا سيحصل غداً أو بعده، فكيف أغامر بوظيفتي». والتوقّف عن المغامرة لا يرتبط فقط بعمل زياد، إذ قرّر الشاب، أنّه لن يبحث عن منزل جديد، واضعاً الفرضيات السلبية أمام عينيه «ماذا لو ارتفع الإيجار فجأةً، لن أتمكّن من دفعه، وسأعود لأسكن مع أهلي...» يسرد زياد السيناريو الافتراضي لحياته المهدّمة بعد غلاء الإيجار الافتراضي أيضاً.
وللبحث عن منزل أو مسكن قصة أخرى في حياة اللبنانيين. فمع غلاء أسعار الشقق السكنية والعقارات، تغلغل اليأس بين الباحثين عن مسكن جديد، فتوقفوا بانتظار تغيير مرجو وإن كان غير واضح المعالم. «من كتر الحسد ما عدنا ضربنا ولا ضربة» يقول جان باصوص، وهو يملك عدداً من المباني السكنية في منطقة سن الفيل. يشكو باصوص من أن البيع سيء جداً ولا أحد يرضى بالأسعار الموجودة في الأسواق «الأسعار مرتفعة، ما ذنبي أنا؟». إلا أن باصوص يعود ليتفهّم خوف اللبنانيين، «أنا أيضاً خائف من استكمال عمليات البناء، فقبل أسبوعين عرض عليّ أحد أقربائي شراء أرض بسعر رخيص نسبياً، لكني لم أقبل». يجهل باصوص سبب الخوف عنده وعند باقي المواطنين ليعود ويؤكّد «لو كان الطاقم السياسي مختلفاً ربما شعرنا بقليل من الأمان».
وإذا كان الشباب هم الفئة الأكبر، المتضرّرة والخائفة من الأوضاع الحالية في البلاد، فإنّه يبقى لأرباب العائلة مشاكلهم الخاصة وهواجسهم التي يصعب تبديدها. فمنذ ثلاث سنوات توقّفت حياة خالد عيساوي وعائلته. «مرعوب» هو عيساوي من أي تغيير قد يتحوّل إلى مأساة بالنسبة إليه وإلى أولاده الثلاثة «خططت أنا وزوجتي لشراء معمل الخياطة الذي استأجرناه قبل ثماني سنوات، ولكن منذ اغتيال الحريري ونحن خائفان من هذه الخطوة». كان مخطط العائلة يقتضي بالاستدانة من المصرف المبلغ على أن يسدّدوه خلال سبع سنوات، «ولكن عند كل عملية اغتيال يتوقّف العمل، فهل أخاطر؟». لا ينتظر الرجل جواباً من أحد، فهو لن يفعل ذلك، بانتظار تسوية نهائية في لبنان. تسوية مطمئنة وأكيدة. وهذا الخوف انعكس على الأولاد الثلاثة، الذين أجّلوا أحلامهم وطموحاتهم أيضاً. رضي هؤلاء بوظائف لا تناسب شهادتهم يقول الوالد «ولكن الوضع لا يسمح بفرص أفضل، وعملهم الحالي نعمة مقارنة برفاقهم العاطلين عن العمل».
لا تختلف حالة لودي الفرزلي وعائلتها كثيراً. فهي وزوجها لا يزالان خائفان من إرسال ابنتهما إلى المدرسة هذا العام «لم أسجّلها إلا في اليوم الأخير وبعد إلحاح كبير من أقاربي». مدرسة «كلوي» ابنة لودي، تقع في منطقة مختلطة طائفياً. والخوف من أي حادث أمني أو طائفي يلاحق العائلة، «نحن مش مع حدا، بس ليش حدا بيصدّق هالشي بهالبلد ؟» تقول المرأة. تعلم جيداً أنها سترسل ابنتها في نهاية المطاف إلى عامها الدراسي الأول، ولكنها لن يهنأ لها بال. «حاولت إقناع زوجي بتسجيلها في مدرسة قريبة من المنزل، لكنه أصرّ على أن المستوى العلمي أهمّ من المسافة. كما أنه أراد أن تختلط ابنتنا بأطفال من مختلف الطوائف والاتجاهات كي تتعلّم عدم التمييز بين الأشخاص». تبتسم لودي ابتسامة ساخرة من أفكار زوجها ومن رضوخها له «إذا صار حرب أفكارها شو بتفيدها، بالحرب ما حدا إلو وجود خارج طايفتو».