ميساء منصورنحن شعب يتيم الوطن... لا لأنه قُصِفَ في حرب «لعنة الكراسي»، ولا لأنه فريسة شعارات عشوائية، بل لأنه استشهد في قلوبنا. ما أفظعها من ميتة ذرفت أرضه فيها الدم حدّ التصحّر، كصبيّة سُلبت عذريتها اغتصاباً سلمياً وهي مفجوعة من هوية المعتدي.
كيف للحب أن يغدر بها؟ كيف للابن أن يطعن رضى والدته؟ وكيف لهذا الوطن ألاّ يشيب يأساً من أدمغة مدمرة كانت بالأمس معمّرة؟
أين سقف الوطن حين تمطر السماء وابلاً من الأشلاء، أين حضن الوطن حين نرتجف من موت يسرق النوم خلسة وينسحب على أطراف أصابعه في عتمة الخوف وشبح الاستسلام حذراً ألاّ يوقظ فينا حسّ الضمير...
لا يحق لنا مناداته بعد اليوم، فقد أشرعت سفنه إنذاراً بالرحيل الصامت وهو مطبق في حقائبه على الغد المشرق، ويجرّ وراءه خيوط الحلم. لقد اعتزل مهنته كسورٍ متين ليحترف فنّ التخفّي كبهلوان يرسم الضحكة على شفتيه وهو ميت الروح، بعدما أصبح دمية تتضارب عليها الأيدي، لا حقلاً يُزرع فيه الأمل.
رحل عنّا موارياً ظهره لكل صراعاتنا، ملتحفاً وشاحه الأسود حداداً على قلوبنا وعلى إخوتنا، فما عاد يحتمل ظلم أبنائه وتشرّد أطفاله في كنف رحمته. ضاقت بهم جنّاته الملغومة جهلاً ونكلاً...
أدمته صرخة رضيع جائع على صدر أم انطفأت شمعة حنينها، أدمته دمعة مصعوقة على ولد تطايرت بقاياه لتتسابق مع روحه، وحطام من المفروض أن يكون حصن الحماية، لا مملكة عشّشت على أطلال أمجاد الماضي، متفرّعة في باطن الدمار، متخذة دماء الأبرياء حساءً علقماً يحلّيه فخرهم بالنصر الذي ترجح الكفّة فيه للخيانة.
لم تُحرّك فينا بالمقابل طرفة عين لتعتصر الدمع. نتقن ببراعة دور المشاهد في مسرحية تراجيدية، نضحك فيها على مرارة الموت، ونخرج في نهايتها ونحن ننفض غبار القاعة لا غشاوة بصيرتنا، أدرنا ظهورنا لستارة أسدلت على وطن لاقى حتفه مطعوناً بنظرات لامبالية وخناجر الضحكات ليصنّف أباً للشهداء ـــ الأحياء المشيعين في احتفال فخم يوزّع فيه الميراث لذئاب مسموح لها التآكل في شريعة الغاب...
غدروا به في حياته، ويغدرون به في مماته. لم يبق له من ثروته سوى صيت يترحّمون عليه بدعاء تقرع نواقيسه في حناجر العاجزين والعجائز.