نضال حمدفي الرابع من شهر آب الماضي، رحل عن عالمنا بعد صراع مع مرض عضال القائد السياسي والنقابي والتضامني النرويجي شيل بيغستاد. قلائل هم الذين يعرفون عن شيل وما قدمه إلى القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. هذا الرجل هو الذي بدأ وقاد عملية استعادة العقل والوعي النرويجي في ما يخص القضية الفلسطينية. فقد عُرف منذ نهاية الخمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي حيث كان طالباً في جامعة أوسلو، وعضواً في قيادة اتحاد الطلبة، وناشطاً ضد نظام الابارتهايد العنصري في جنوب أفريقيا.
عرف شيل أن الرواية الصهيونية والأوروبية المتصهينة للمأساة الفلسطينية كانت عارية من الصحة ومليئة بالثقوب والفجوات. وأدرك أنه يصعب على أي عاقل ومدرك للسياسة وصاحب معرفة بتجارب الشعوب أن يقبل تلك الرواية المؤسسة على الخرافات والنفاق وتغييب العقل والضمير. كما عرف شيل أن الجلّاد الصهيوني لبس ثوب الضحية الفلسطينية، وأن المجرم يتمثّل دور الضحية في كل شيء، وفي كل مكان، وأن اللص الذي سرق أرض الفلسطينيين وشردهم في المنافي والشتات واللجوء قد ارتكب المذابح والمجازر والإبادة، ثم بعد سيطرته على الأرض واحتلاله لفلسطين، وبعدما أعلن قيام كيان إسرائيل على تلك الأرض، أخذ يسرق التراث والتقاليد وكل شيء له علاقة بتاريخ فلسطين.
وأكثر من ذلك، أخذت أبواق دعايته وإعلامه تدخل في رؤوس النرويجيين والأوروبيين روايات خرافية عن أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وعن دفاع الشعب اليهودي عن وجوده ضد الخطر العربي الفلسطيني، كذلك صوّرت الدعاية الصهيونية الفلسطينيين على أنهم المعتدون على اليهود الآمنين في ديارهم. هذا الهراء وذاك النفاق لم يجدا مكاناً لهما عند شيل بيغستاد ورفاقه من النرويجيين الذين عرفوا الحقيقة ولمسوا النفاق الصهيوني، وإن كانت تلك الفترة صعبة ومظلمة في النرويج إذ إن 5% فقط من النرويجيين كانوا يرون أن كيان إسرائيل مسؤول عن القلاقل والحروب في الشرق الأوسط. بينما أكثر من 50% كانوا يضعون اللوم والمسؤولية على الفلسطينيين والدول العربية.
في مثل تلك الظروف باشر شيل ورفاقه نشاطهم لتعريف الشعب النرويجي بالقضية الفلسطينية وحقيقة الأمر. لم يكن الأمر سهلاً ولا كانت طريقهم مفروشة بالورود والأزهار، بل واجهتهم قوى عديدة وكثيرة أكبر وأقوى منهم قوة وعدداً ودعاية وإعلاماً وأموالاً وأحزاباً ومؤسسات، وفوق كل ذلك جوبهوا بموقف الدولة والكنيسة والمجتمع المنحاز للصهاينة. كان للكيان الصهيوني مكانة مميزة في النرويج، لكن شيل بيغستاد الذي شغل منصب السكرتير العام لحزب الحبهة الاشتراكية النرويجي وهو في ريعان الشباب، وفي مرحلة الدراسة الجامعية، أعلن موقفه بصراحة ورفض المساومة على ذلك، وطالب الحزب باتخاذ موقف شبيه ومماثل.
لاحقاً خرج شيل بيغستاد من الحزب ومعه أتباعه من المؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية، وأسّسوا لجنة فلسطين النرويجية، ثم جبهة فلسطين النرويجية، وكذلك مجموعة فلسطين النرويجية. حصلت خلافات بينه وبين لجنة فلسطين والشيوعيين، وهو الذي رددّ دائماً أنه لم يكن اشتراكياً... لكنه كان أباً حقيقياً للمتضامنين مع الفلسطينيين.
وفي مرحلة متأخرة، اتفق شيل والآخرون في مؤسسات تتضامن مع فلسطين على تأسيس إطار جماعي يضمّهم جميعاً مع آخرين، أطلقوا عليه «المنظمة النرويجية الموحدة من أجل فلسطين». وبالمناسبة فإن الجالية الفلسطينية في النرويج عضو في المنظمة.
اتّجه شيل نحو نقابات عمال النرويج، التي كانت أكبر معاقل التوغل الصهيوني في البلاد، كما كانت تعدّ المساند والداعم الأساسي والأول للهستدروت الصهيوني، منها ترسل المساعدات والوفود للتضامن مع الكيان الصهيوني. وأدرك أهمية تغيير موقف النقابات، لأنها أكبر منظمة نرويجية على الإطلاق، تضم الآن في صفوفها أكثر من 800 ألف عضو ومنتسب مع العلم أن تعداد سكان النرويج أقل من 5 ملايين نسمة.
وضع شيل الذي كان يرأس جريدة تابعة لنقابة المستخدمين والموظفين كل طاقته من أجل جلب وتأطير وتنظيم المتعاطفين مع فلسطين. وسوف يسجل التاريخ لهذا الرجل نجاحه الباهر في تغيير موقف النقابات النرويجية رأساً على عقب وتحويلها من مقر للهستدروت إلى مقر لاتحاد عمال فلسطين. وللعلم فإنّ النقابي الفلسطيني موسى الجريس، أبو جورج، أحد قادة عمال فلسطين، يعمل في النقابة منذ سنوات طويلة، حيث جمعته مع شيل بيغستاد صداقة قوية.
ويذكر البعض أن أبا جورج عندما دخل للمرة الأولى إلى أحد مكاتب مجمع النقابات واجهه المسؤول هناك بالقول: إنّ دماء الضحايا اليهود ما زالت على يديك وتحت أنيابك... فرد عليه أبو جورج: إنك ضحية عملية تضليل وتشويه أفكار وقلب حقائق، وتأكد أننا بعد فترة من الزمن سنصبح صديقين. وهذا الذي حصل فعلاً. فبعد فترة أصبح النرويجي المذكور من أشد المناصرين لفلسطين. ولتصبح النقابات برمتها قلعة تضامنية مع الفلسطينيين. قدمت النقابات مساعدات ضخمة وكبيرة إلى الشعب الفلسطيني وعمال فلسطين. ويوم تناقلت وكالات الأنباء خبر الفساد المالي في السلطة الفلسطينية، رد شيل بيغستاد على أسئلة الصحافيين بجرأة وخبرة حيث انتقد الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، لكنه برأ عرفات من الفساد وفي الوقت نفسه أقرّ بوجود فاسدين داخل السلطة أساؤوا استخدام بعض المساعدات.
أذكر في ندوة حصلت نهاية العام المنصرم في مقر المنظمة النرويجية الموحّدة من أجل فلسطين وبدعوة منها، حيث كان المتحدث الرئيسي رايموند يوهانسن مدير وزارة الخارجية النرويجية ومسؤول ملف الشرق الأوسط، كيف كان يوهانسن يخاطب شيل كأنه المعلم. ولم يكن شيل بالفعل سوى المعلم الشجاع والصريح، حيث أسمع مدير الوزارة كلاماً كان يجب أن تسمعه الحكومة مباشرة.
عمل شيل لأجل فلسطين وزار مخيماتها في لبنان وعاين حياة الفلسطينيين في المخيمات عن قرب. وتأثر بحياتهم، لذا وضع إمكاناته في النرويج وعلاقاته من أجل السماح لفرق رياضية فلسطينية بالمشاركة في دورة كأس النرويج بكرة القدم التي تقام كل عام. ونجح في ذلك حيث دأبت الفرق الفلسطينية من مخيمات لبنان ومن فلسطين المحتلة على المشاركة في الدورات بتمويل نرويجي كامل. وساعده في ذلك وأشرف على عملية المشاركة فؤاد تمراز وما زال يشرف عليها حتى يومنا هذا. وبمناسبة ذكر فؤاد الذي تربطه علاقة حميمة بشيل ويسكن بجواره منذ سنوات طويلة.
لم تحصل تظاهرة أو ندوة أو نشاط هام إلا وكان شيل في المقدمة، يحمل اللافتة والعلم والميكرفون. يكتب الشعارات، يلصق الملصقات، يقدم الكلمات ويعطي الحضور دروساً في كيفية التضامن الحقيقي مع شعب فلسطين. نستطيع القول إن شعب فلسطين خسر بغياب شيل بيغستاد أحد أهم أعمدة التضامن معه في النرويج وفي العالم.