قصر ومعبد وبيوت: هذه هي مكتشفات كامد اللوز الأثرية التي تسمح بتقديم قراءة جديدة عن تكيّف سكانها مع الواقع السياسي خلال المراحل التاريخية
جوان فرشخ بجالي
كامد اللوز هي اليوم بلدة صغيرة من بلدات البقاع الغربي. بلدة لا يميّزها عن غيرها سوى موقع أثري تنقّب فيه بعثة ألمانية منذ أكثر من خمسين سنة. إلا أن الاكتشافات التي تتالت على الموقع سمحت لعلماء الآثار بتقديم قراءة جديدة عنه. فـ«كامد اللوز، التي كانت تُعرف قديماً بـ«كوميدي»، عرفت كيف تستغل واقع السياسات الدولية خلال الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد لتنمو وتزدهر وتصبح مدينة تمارس نفوذاً على مدن المنطقة» كما تشرح البروفسور مارليز هاينز، مديرة الحفريات في موقع كامد اللوز والمحاضرة في جامعة ألبرت ــ لودفيكز الألمانية. ثم تردف: «إن دراسة الطبقات الأثرية تتيح لنا من دون شك فهم تطور الحياة على الموقع، ولكن لو نظرنا إليها من وجهة نظر تغيّر السياسات الخارجية وفترات الاحتلال يصبح بإمكاننا أن نرصد من خلالها تغيّر معالم الحياة اليومية في المدن الصغيرة بحسب تغير السلطات. فكامد اللوز تقع في نقطة احتكاك سياسي بين المدن الساحلية وحضارات ما بين النهرين، ما يجعلها منطقة تعدّ السيطرة عليها من ضرورات السياسات التوسعية، كما كانت الحال مثلاً في مصر الفرعونية».



ففي فترة العصر البرونزي المتوسط (2000 – 1500 قبل الميلاد)، كانت منطقة الشرق الأوسط تحت سلطة الفراعنة، وكان سهل البقاع محلّ تنازع على السّلطة بين المصريين والحثيين، مما جعل من ولاء ملك كامد اللوز للفرعون ضرورياً. وكان العلماء قد عثروا في مكتبة تل العمارنة على رسائل كان ملك كامد اللوز «أرا ـ حاتو» قد أرسلها إلى الفرعون المصري أمنحوتب، يحاول فيها إظهار طاعته وحسن نيته راجياً منه عدم إطاحته، ومسترسلاً في إبداء ولائه بعبارات مثل: «أرسلوا إلي العربة والفرس وآتي أنا بنفسي إليكم». ولكن ذلك لم يُجدِ نفعاً، فبدل العربة أرسل إليه الفرعون جيشاً أطاحبه واستبدله بآخر. فللضروريات السياسية أولوياتها، ومن يسيطر على البقاع عسكرياً، وخصوصاً منطقة البقاع الغربي، يضمن بقاءه. في تلك الفترة، أصبحت كامد اللوز أقوى مركز عسكري للفرعون المصري على الساحل اللبناني، لدرجة أن ملك جبيل طلب تعزيزات عسكرية من حاكمها لقمع ثورة داخلية!
هنا، ترسم البروفسورة هاينز مقاربة مع الواقع الحالي، وتقول «لا يزال البقاع نقطة نزاع على السلطة بين جميع دول المنطقة والكل يريد أن يضمن أمنه من البقاع أولاً. فهي طريق الوصل بين الساحل اللبناني ــ الفلسطيني والداخل السوري ــ العراقي.» لا تزال أهمية كامد اللوز العسكرية هي نفسها: فخلال الاجتياح الإسرائيلي، تحول الموقع الأثري إلى مركز عسكري. واليوم، ها هو الجيش اللبناني يبني مقراً عسكرياً بمحاذاة التل.
هذا على الصعيد العسكري، أما تجارياً، ففي فترة الحكم المصري عرف الشرق الأوسط أول نوع من العولمة في الميدان التجاري. فالطرق كانت سالكة وآمنة، وكما كان يقول الفراعنة: «اِبدأ بالسفر وقدم الهدايا، تنهض التجارة بنفسها». وكامد اللوز كانت مدينة غنية على طرق التجار، فحاكمها كان يعيش في قصر واسع مبني بالحجارة المصقولة، ومعبدها كان واسع الأرجاء تتوافر فيه العاجيات والأواني المستوردة الباهظة الثمن. كما أظهرت القطع المكتشفة قيام تجارة ناشطة بين مصر ومدن الساحل ومدن الداخل أي حضارات بلاد ما بين النهرين.

دامت فترة الازدهار تلك طوال فترة الاحتلال المصري، أما في فترة العصر البرونزي الحديث (1200 – 1500 قبل الميلاد)، فقد انتهى دور كامد اللوز «إقليمياً»، وتوقفت التجارة منها وإليها (كما تدل الحفريات الأثرية) ولكن المدينة عاشت من التجارة المحلية وحافظ أهلها على نمط حياة عالي المستوى، فظلّ تشييد المباني الحجرية الواسعة رائجاً، وحافظت المدينة على التجارة المحلية فيها لأن سكانها كانوا يعرفون كيف يستغلون الأوضاع السياسية الإقليمية لتحقيق الازدهار إذا توافر الظروف الموضوعية لتحقيقه، أما في الحالات الأخرى، فقد كانوا يجيدون المحافظة على استقرار وضعهم الجيد.
وفي فترة العصر الحديدي (1200 – 333 قبل الميلاد)، عرفت كامد اللوز نمواً حياتياً وسياسياً يشبه إلى حد بعيد ذلك الذي عرفته في الفترات السابقة، فعرفت مثلاً كيف تستغل فترة الحكم الفارسي لتستعيد دورها في التجارة الإقليمية وتزدهر.. ومع اندلاع الخلافات أبقت على نفسها كمدينة تعتاش من التجارة المحلية.
«إن رصدنا للتغيرات الحياتية في كامد اللوز من خلال علم الآثار يتيح لنا فهم تأثير تقلبات السياسة الدولية على حياتنا اليومية في عصرنا هذا أيضاً»، تقول البروفسور هاينز. وتأقلم المدينة مع الواقع يعطي نبذة عن دهاء الشعوب الضعيفة عسكرياً ويظهر وجهاً آخر للمنطقة. فخلال 5000 سنة من التاريخ، ومنطقة الشرق الأوسط لم تفتعل أية حروب كبرى على أرضها، بل كانت دوماً منطقة تخضع للصراعات بين السلطات والإمبرطوريات الكبرى، وأكثر ما حاول سكانها القيام به كان التأقلم مع الواقع ومحاولة استغلاله للازدهار أو تفاديه للبقاء».
ترى هاينز أن «قراءة» الطبقات الأثرية من مختلف أوجه الحياة اليومية تسمح بفهم الشعوب القديمة التي لم تكن مشاكلها اليومية مختلفة عن مشاكلنا الحاضرة. فهي ترى رابطاً فعلياً في الحياة والتأقلم بين أبناء كوميدي وأبناء كامد اللوز. وتشرح: «بماذا تختلف مخاوف أبناء كوميدي من التمدد المصري أو الأشوري على أرضهم عن تخوف سكان المنطقة اليوم من حرب إقليمية؟».

حفريات «مرحة» في كامد اللوز



يعدّ موقع كامد اللوز من أهم المواقع الأثرية في لبنان وأثراها.
فالموقع الذي كانت البعثات الألمانية قد بدأت العمل فيه سنة 1953 قد أغنى المتحف الوطني بقطع فريدة من نوعها عالمياً: عاجيات وبرونزيات، وفخاريات تشهد أن الموقع كان المدينة الأساسية التي تمر بها طرق التجارة بين حضارات بلاد ما بين النهرين ومدن الساحل. كان ذلك سبباً كافياً لوقوع عملية نهب واسعة تعرّض لها الموقع بين عامي 1982 ـــ 1999 بعدما استعملته السلطات الإسرائيلية مركزاً عسكرياً لها خلال الاجتياح.
وتقول البروفسورة هاينز «حينما وصلت البعثة إلى الموقع لمباشرة الحفريات، كان التل يشبه سطح القمر بسبب كثرة الحفر». وكان من الضروري خلق رابط ثقة جديد بين سكان القرية والموقع للمحافظة عليه». بدأ عامل الثقة هذا حين قررت العالمة كسر «محور الجهل»، فشرحت للعمال أهمية المكتشفات الأثرية على الموقع في محاولة منها لخلق رابط بينهم وبين سكان «كوميدي» حيث إنها أخبرتهم عن مشاكل الأقدمين وأظهرت لهم تقاربها مع مشاكلهم اليومية الحالية. كما أكدت لهم أن استمرار النهب على حاله سيوقف عمل البعثة التي تنعش الدورة الاقتصادية للقرية. وهنا بدأ الترابط بين المصلحتين المادية والمعنوية لسكان القرية، إضافةً إلى أن حراساً من سكان القرية عينوا على الموقع، فتوقف النهب.
يتميز هذا الموقع بالأجواء المرحة التي تحيط به خلال أعمال الحفر والتنقيب.
فالعالمة الألمانية ترى أن العمال «شركاء» في التنقيبات وتحرص على أن يتعامل معهم أعضاء الفريق بفائض من التهذيب واللطافة. وتشرح لهم المكتشفات الواحد تلو الآخر بحيث تحضّرهم ليأدّوا دور المرشدين السياحيين حين يصل الزوار إلى الموقع. هذا إضافةً إلى أنها لا تتأخر في إظهار دور كل واحد منهم في الاكتشافات التي تجري، وتعطي لكل واحد منهم «حقه» في إنجاح الدراسة العلمية، بمهنية عالية. أما هم، فيبادلونها اللطافة والتهذيب بمهنية عالية أيضاً، مؤكدين أن «كل طرف يقوم بعمله ويشارك بإنجاح الحفرية لبقاء الموقع وفهم الحضارة».

اكتشافات البعثة لهذه السنة



كان العثور على منازل استخدمها حرفيون تابعون للمعبد من أهم الاكتشفات التي قامت بها البعثة هذه السنة. تقول هاينز «كان ذلك ظاهراً من المعدات المكتشفة داخل البيوت، فقد وجدنا كمّاً هائلاً من القطع البرونزية الصغيرة مما يشير إلى أنها كانت محترفاً». كذلك جرى العثور في منطقة القبور الفينيقية على «أساور» برونزية ضخمة وثقيلة الوزن كانت تزيّن أقدام النساء الثريات، لم تستطع البعثة تحديد دورها كما أفادت هاينز. فهل كانت تستخدم لأغراض دينية فتوضع في أقدام النساء بعد وفاتهن أم أنها كانت تستعمل حلى من جانبهن؟ ولكن وزن الأساور يثير الشك بشأن استخدامها من جانب الأحياء، إذ إن وزنها كان سيجعل عملية السير صعبة ومعقدة، ويفتح باب التساؤل بشأن إذا ما كان ذلك تحديداً هو الغاية من فرضها؟.
لم تقتصر الاكتشافات على ذلك، بل وصلت حتى إلى المعبد القديم المدمّر والمحروق كلياً. وقد أزيل الركام بشكل علمي وهذا سيسمح لعلماء الآثار بإعادة رسم عملية الهدم على الكمبيوتر بشكل كامل. كذلك عثر العلماء داخل إحدى غرف المعبد على السقف الخشبي المحروق، وستنقل عيّنة منه إلى المختبرات في ألمانيا لتحديد نوعية الخشب وتاريخ احتراقه. أما في إحدى غرف المعبد، فقد عثر العلماء على جرار ضخمة وضعت قرب الحائط كانت تستخدم لتخزين الحبوب، أودعت إلى جانبها أوانٍ فخارية صغيرة وضعت خصيصاً لاستخراج الحبوب من الجرار. أما عن سبب دمار المعبد، فتقول هاينز إن الفريق «لم يعثر على أي سبب حسي»، مما يفتح الباب أمام جميع الاحتمالات بدءاً من الثورة الداخلية حتى نسيان عود من الثقاب.