أنسي الحاجأجزاء متقاطعة

هذا الجانب المحيّر في اللوحة، في القطعة الأدبيّة، في الأغنية، المحيّر الذي لا ينسحب عنه النظر حتّى يسارع للعودة إليه،
مسحوراً، مشغوفاً، مدمناً، مغزوّاً بالأسئلة،
... هذا الجانب هو احتمال الصيرورة.
انظرْ إلى هذه اللوحة، تفيّأ هذا اللحن، إنّ ما يَشدّك ليس ما يحركانه فيك من ذكريات بل ما يثيرانه من شهيّة تحقيق ما سيصبح ذكريات.
وهو هذا نفسه ما يُمدّد للماضي في الحاضر: الأمل في تجسيده عبر الحلم به أكثر تجاوباً «هذه المرّة» مع أمانينا.
بهذا المعنى، الجمال الذي يجتذبنا في الكتابة هو الوعد، هو وعدُنا بأن ما نرجوه سوف يصير، ولو أدركنا ذلك بصعوبة في غمرة ضباب الجديد.
وما نحبّه بعضنا في بعض هو هذا أيضاً،
ولو تجلّى لنا في شكل إلحاح قديم، أو اجترار لهاجس واحد تتعدّد وجوهه.
ما يحبّه واحدنا في الآخر هو لمحة وعدٍ بتجسيد حلم، بتجسيد قطعة أخرى من الحلم، من الحلم الذي يختلط ماضيه السحيق بنجوم مستقبله المجهولة، الوامضة وراء العقل، تحت الجفون، والتي تَهْمس للأنفاس وهي تتكوّن، وللأنفاس وهي تشتدّ، وللأنفاس وهي في أواخرها، تَهْمس أنَّ ما تحقّق لنا من أحلام ليس رفاتاً لصندوقة الذكريات بل هو لمسة أضيفت إلى مشروع الهيكل.

ابقَ معي، دَعْني

تحوّلت الآداب الغربيّة، الفرنسيّة خصوصاً بالنسبة لي، مستعمرة للعالم الثالث بعدما كانت محجّة للهاربين من أنفسهم.
في المرض تتذكّر الخوارق لأنّها تشدّ بك إلى فوق، ولا تتذكّر إلّا مرغماً الكائنات والحالات العاديّة، مهما تكن صافية، فهي تصلّي عليك في حفرتك ولا تعين حاجتك إلى القوّة. القوّة تنبجس من مرأى الظواهر الفاجرة لا الرقراقة. من اختراقِ قلم لقبرِ لغة. من اجتياح امرأة لسياج السمعة والتقاليد. لم يعد هناك ما يُقرأ. سقط الوهم عن هيبة الغربة. ليتنا ما عرفناهم.
لحسن الحظّ أن الواحد منّا يولد على خلاف مع الأوان. هذه الفجوة ترسل بخار الشوق. دعك من المساواة، خرافة أدباء السذاجة. التفاوت في كلّ شيء نعمة. كيف تعرف الفرق بين الذين أحبّوك والذين أحببتهم؟ من هذا الخَلَل.
ابقَ معي، يقول الخائف. لا تترك يدي، وإلّا جرَفَتْني العتمة.
لا ترهقْني، يقول أيضاً، دَعْني، إذا كنتُ وحدي سأكون أَخَفّ.

قوانين مملّة

كان لورانس العرب يقول إن العبوديّة المختارة هي أعمق أنواع الكبرياء للنفس المريضة. ولدوستيوفسكي العبارة المأثورة: «هناك شيء واحد يفضّله البشر على الحريّة، هو العبوديّة». وبسخريته التي أضحت كأنّها مفروضة عليه كان برنارد شو يقول إن الاستعباد البشري بلغ ذروته في عصرنا على شكل العمل المأجور.
نفسيّاً وعاطفيّاً، وإذا تجنّبنا المعادلة التقليديّة «جلاّد ـــــ ضحيّة» أو «معذَّب ـــــ معذَّب» أو «مستعذِب الإيلام ـــــ مستعذِب التألُّم»، لما حَلَلْنا المشكلة بل تظاهرنا بعدم رؤيتها. لا مفرّ من اختلال الميزان. ربّما تتساوى الكفّتان في حالة ارتضاء العبودية لدى الطرفين، أو السيادة لدى الطرفين. كلاهما عبدٌ للآخر أو كلاهما حرّ بنفسه «مع» الآخر أو «حيال» الآخر. لكنّه التوازن في انعدامه. لا تصعد خشبة «يا طالعة يا نازلة» إلّا من جهة واحدة وحين تصعد ينزل الطرف الآخر. وإن توازنا على خطّ واحد توقفت حركة اللعبة. الأقوى، كما هو معروف، هو الأقلّ انجذاباً، والأضعف هو الأشدّ انجذاباً. حتّى في علاقة الأم ـــــ الولد يَتنمّر الولد ما إن يشعر بضعف أمّه حياله، و«يتمقطع» بها. السيّد هو الأقلّ عاطفة. السيّد المُطْلَق هو العديم العاطفة المجهّز بالإغراء. وكما تنطبق هذه البديهيّات في الحقل العاطفي والجنسي تنطبق على الصعيد السياسي. أقوى الزعماء والطغاة ليسوا الذين يشعرون بآلام شعوبهم بل الذين يُحسنون استغلالها.

دنيا حيطان

أُحبُّ الفضاء المفتوح، السماء المنفلشة، الآفاق المباحة، وبيتي مسوَّر بحيطان العمارات، والحيطان باطون على طوله بلا نوافذ. لحق بي هذا الخنق خارج لبنان. لدى إقامتي في باريس أربع سنوات بدّلتُ منزلي أكثر من خمس مرّات، وعلى الدوام كانت نوافذي لا تعطي إلّا على حيطان. عرفتُ شرفات بلا معنى، شرفتي الحاليّة، بل الدائمة، في بيروت تُطلّ في آخر نصف متر منها على نصف متر من الشارع الذي يضجّ بالسيّارات نهاراً وبكركرة الأراكيل ليلاً، و«ركّابها» المالئين والمالئات الجوف غازات وسلّاً. لا أعرف أبشع من عادة هذه الأراكيل، ولا من مناظر مراهقين ومراهقات ممعنين مَصّاً ونَفْخاً في وضعيّات يقلّد بعضها بعضاً، ضمن ظاهرة قطيعيّة أَحَلَّها الاستغلال التجاري محلّ ضجرٍ كان أرقى، ومحلّ كسلٍ انفرادي أو جماعي أقلّ حسناته أنه يغذّي الفضول، واجتاحت ما تبقّى من مساحات للتأمّل والنزهة، وللاشيء المخصب، عرّاب المغامرات.
للمباني المتحاذية المكتظّة حَسَنة وحيدة هي سهولة التعاشُر. ولكنْ ليت البحر كان فراش تلك المباني لا اليابسة، إذاً لكُتب للتعاشر، حين يحصل، وقت محدود بوصول السفينة إلى غايتها، حيث يتبعثر الرفاق ويحلّ بعضهم بعضاً من عقاله. مع اليابسة أين المفرّ؟ وترغمكَ البيوت الخانقة على الخروج للتفسُّح، وهناك الغنْم والغرم أيضاً. وصريف الأسنان، عندما يقع عليك مَن لا تريد أن تقع عليهم.

«يلّلا باي»

«يلّلا باي».
لا يكاد لبناني يفارق لبنانيّاً إلا بهذه العبارة، الأرجوحة الوطنيّة الأكثر رواجاً.
نسمع «باي» في الأفلام المصريّة فنستلطف لفظها، واللفظ المصري يلطّف الحجارة. ولكن «يلّلا باي» اللبنانيّة غليظة ما شاء اللّه، لا غلظة اللفظ، على تعدّد طوائفه ومناطقه، فحسب، بل غلظة الاصطلاح الذي يَحلّ محلّ العفويّة ويُموّه المشاعر. وفوق هذا اصطلاح كاذب.
غالباً ليس لنا ما نقوله عند الفراق. وأحياناً عند اللقاء أيضاً. صُدَف وحتميّات يمليها السير في المدينة فيجد المرء نفسه مضطرّاً إلى المجاملة. دائماً كانت هكذا، وأسوأها حين يلتقي شخص مضغوط أو مُكَهْرَب شخصاً لزجاً ثرثاراً. ولكن في الماضي لم يكن هناك مقلاع «يلّلا باي».
فيها تأجيل ما ليس مستحقّاً، وتحيّة أقرب إلى التهريبة، ونغمة راقصة تُشْبه الرَكْل.
لا مفرّ من المصطلحات، وبين فوائدها أنها تُعفي من الصدق، وتعكس مدى تدهور الذوق. من «مع السلامة» و«إلى اللقاء» و«سعيدة» و«بأمان اللّه» إلى «يلّلا باي».
يعيش الواحد منّا بين ناس لا يحكون لغته ولا يشعرون شعوره، ومع هذا يعيش. والكلام أشدّ الاستعمالات فتكاً، مع الخلوي والأراكيل، ومع السيغار والدرّاجات الناريّة. ومع وجوه لم تعد تلمع فيها العيون. ومع كتب لا تُقرأ وأفلام تعيد إنتاج نفسها وشاشات أنجح ما فيها الحيويّة الشخصيّة لمقدّمي برامجها.
... ومع هذا نعيش. «يلّلا باي».