الجبل 6 أيلول 1983، الجبل 6 أيلول 2008. ربع قرن وما زال الجرح نازفاً. «تنذكر تما تنعاد» تكاد تكون تحية الصباح في هذه الذكرى. السادس من الجاري منذ 25عاماً، التاريخ الفعلي لأولى عمليات التهجير من الجبل وبداية مرحلة صعبة لم تنته فصولاً بعد. أو لنقل إنه التاريخ «الأقوى». فقد حصلت عمليات تهجير قبله، لكن يوم 6 أيلول بقي في الذاكرة الجماعية وشماً، وخصوصا أن 25 عاماً لم تساهم في محوه
عامر ملاعب
لم يكن الشاب الثلاثيني روني أبي عاد يدري أن زيارته لبلدته «دفون» عام 1998 ليوم واحد، للمشاركة في انتخاب أعضاء البلدية، ستغير حياته. فقد استيقظ داخل الرجل «شعور قوي بالانتماء إلى الأرض التي لم أكن أذكر منها، سوى البيت وجزء من الدار أمامه» كما يقول. ويضيف «منزل غادرته وكان عمري خمس سنوات، عام 83، لكن حلم والدي اليومي قبل وفاته عام 1986، بأن يكحل عينيه برؤية قريته لم يتحقق». تترقرق دموع في عيني الشاب للذكرى، ويضيف «قررت بسرعة قياسية أن أعيد ترميم المنزل. كما قررت العيش فقط في قريتي. أوقفت استكمال ملف طلب القرض السكني لشراء منزل في بيروت، وكانت زوجتي إلى جانبي. خلال ثلاثة أشهر كانت الجدران التي بناها والدي بيديه قد عادت مرممة وجميلة. ضجّت الأحواض بالأشجار والزهور. لم أنتظر «تسويفات» الجهات الرسمية، التي دفعت في ما بعد». تشرق عينا روني فجأة وهو يقول «ها نحن اليوم : 15 شاباً عدنا إلى القرية، تزوجنا ونسكن بشكل دائم فيها». كنا نتحدث إلى روني في دار منزله المطل على الطريق العام. هكذا، كان يقاطعنا من وقت لآخر سلام يرميه عابر من أبناء القرية، ناظراً باستطلاع إلى الزوار. يصرخ نسيم أبي عاد، لدى معرفته بسبب وجودنا، من خارج سور الحديقة «التهجير خلانا نحسّ أهمية العيش المشترك. هذا أمر واقع لا حاجة لمناقشته نحنا وأهلنا بالمنطقة ولن تتكرر الأيام السودا». يعود روني لمتابعة تفاصيل يومية تواجه كل العائدين «يومياً أنتقل بين عملي مدّرساً في منطقة الدورة ببيروت، ومنزلي في قرية دفون في قضاء عاليه. لو كان في منطقتنا مدرسة تعلم باللغة الفرنسية لأمكنني الاستغناء عن الانتقال يومياً كل هذه المسافة».
حال قرية «دفون» أفضل بكثير من تلك القرى التي تتفاوت القدرة والرغبة في العودة إليها. الأسباب عديدة، أهمّها: ارتباط المهجرين على مدى ربع قرن بالمناطق التي نزحوا إليها، عدم وضع الدولة استراتيجية تؤمن بدائل للمواطن عن مركزية العاصمة، كي تحفزه للعودة. مشكلة مركزية العاصمة بالنسبة لفرص العمل والعلم، وخصوصاً في ظل الأوضاع الاقتصادية المزرية وكساد المواسم الزراعية التي لم تعد تعيل بيوتاً، وعدم الرغبة بالإقامة بعيداً عن بيروت، وهذه المشكلة عابرة للطوائف والفئات الاجتماعية، وهي من أخطر المشاكل التي تواجه العائدين.
ملف عودة المهجرين الذي قارب، خطابياً، على نهايته، يفتح النقاش واسعاً أمام مشكلة أعمق وأشمل تطال كل الأرياف اللبنانية وكيفية استنهاض واقعها.
فقد أدى القتال في قضاءي عاليه والشوف في الحرب الأهلية إلى تدمير ما مجموعه 44 قرية كلياً و81 قرية جزئياً. وهي قرى للمسيحيين والدروز والسنّة. واليوم يمكن اعتبار ملف المهجرين في الشوف قد أنجز على مستوى البلدات عامةً، ولم يبقَ منه إلا قضية العودة إلى بلدة «بريح». ملف البلدة لا يزال عالقاً عند قضية «بيت الضيعة»، أي القاعة العامة التي شيّدها دروز القرية على أرض تعود ملكيتها بجزء منها للمهجرين المسيحيين. أما في قضاء عاليه، فإن بلدات «كفرمتى»، «كفرسلوان»، «عبيه ـــ عين درافيل»، «كليليه» و«البنيه»، فلم تشهد عودة بعد. وتبقى ملفات معلقة في كل القرى التي شهدت التهجير.
وبالطبع، ومنذ زمن بعيد، دخلت قضية المهجرين بازار «السياسة» اللبنانية. فتحوّلت مادة دسمة في الانتخابات وإثارة النعرات الطائفية وابتزاز الطوائف للدولة، وكسب العقل الشعبوي. لكن لم تجر حتى الآن معالجة فعلية لهذا الملف. فمن معوّقات العودة، أنها هي أيضاً مسألة هجرة من الريف إلى المدن. وهذا ما يلاحظ في البلدات والقرى الزراعية التي يعتمد أهلها على الوظيفة لتأمين معيشتهم. مثال ذلك أن قرى «منطقة الحرف» (البيرة، المعوش، كفرنيس وغيرها) وبلدة رشميا، عادت بقوة، وخصوصاً خلال فصل الصيف. وهي تعج بالسكان، لأنها تتمتع ببنى تحتية زراعية وإنتاج محاصيل. فيما بلدات أخرى انتهى فيها الحضور المسيحي أو يكاد، بسبب الهجرة من جهة وبيع الأهالي منازلهم وأرضهم إلى غير أبناء البلدة، أو أصبحوا أقلية كما بلدة «سوق الغرب» التي «تعج بالسكان ولكن أهلها لم يعد منهم ما لا يزيد عن 25%، ولم تكتمل التعويضات أصلاً لأصحاب المنازل» كما يقول الياس الصليبي، أحد أبنائها والوحيد بين أصحاب المحال التجارية في السوق من أبنائها الأصليين.
عودة المهجرين لم تتحرك إلا بخجل خلال العام الفائت، عبر توقيع مصالحة «كفرمتى» في 8 أيلول 2007. إلا أن المنازل لم تسلّم بعد إلى المهجرين، ولا يزال الملف يتعثّر في عدد من القرى التي يعيش أهلها على الوعود من عهد إلى عهد.
روني أبي عاد، نموذج ابن القرية الذي نزل إلى المدينة، وترك أرضه «لم نعد نزرع ولم يبقَ أحد ليزرع، فقد هاجروا جميعاً إلى خارج لبنان أو يرفضون العمل في الزراعة، ولا تعود غالبية المسيحيين إلى الجبل بسبب استقرارها في مناطق أخرى مدى السنوات الطويلة الماضية، ومن تهجر من بلدته عازباً عاد إليها زائراً متزوجاً بصحبة أولاده وبحاجة إلى الحصول على تعويضات للفروع، وما زالت الناس تنتظر».



عودة: دول اشترطت ملفّات للمساعدة

ثائر غندور
لا يريد وزير المهجّرين ريمون عودة أن يعد اللبنانيين بشيء لن يكون قادراً على الإيفاء به.«لا أموال حالياً» يقول الوزير مردفاً «نحن نعمل على تأمينها». ويضيف عودة أن الأولويّة لفهم المشاكل العالقة، وتأمين الأموال اللازمة لحلها «كوننا نعمل على مساعدة اللبنانيين». ولفت عودة إلى أن العديد من الدول، وخصوصاً الخليجيّة منها، وعدت بتأمين الأموال سابقاً «لكنّ هذه الأموال لم تُدفع بعد، والوزارة تحاول إنجاز الملفات لتقديمها لبعض الدول التي اشترطت لمساعدتنا الحصول عليها». وأعطى عودة رقماً دقيقاً لما صُرف حتى الآن: مليار و600 مليون دولار «رغم أن التقديرات الأوليّة أشارت إلى حاجتنا إلى 500 مليون دولار فقط». وأضاف «إقفال الملف يحتاج إلى 600 مليون دولار، ما يعني أن كلفة عودة المهجرين لن تكون أقل من مليارين و200 مليون دولار».



شروط إنهاء ملف العودة

حسب «المنسق العام لرؤساء بلديات القرى المهجرة والمقيمة والمتضررة من الشوف وعاليه والمتن الأعلى ومخاتيرها»، جورج أبي سعد، فإن تحقيق عودة ناجحة يستلزم ما يأتي:
1ـــــ إقرار مبدأ تعديل التعويضات وجعله ستين مليوناً بدلاً من ثلاثين مليون ليرة لبنانية لوحدة الترميم.
2ـــــ ربط مبدأ الدفع بالعودة إلى القرية، ومن لم يلتزم، يُستَرجَع المبلغ منه.
3ـــــ الإسراع في العودة إلى القرى التي لم يعد أهلها بعد، ودفع التعويضات اللازمة لها.
4 ـــــ حصر ملف كل قرية وإنهاؤه على حدة، بما فيه تعويضات الأصول والفروع والمصالحات.
5 ـــــ رصد تعويضات للمؤسسات ودور العبادة والسيارات وأثاث المنازل ولذوي الشهداء وفقاً لمبدأ المساواة بين المواطنين.
6 ـــــ توحيد قرار الصندوق المركزي للمهجرين والوزارة لتضارب الصلاحيات والمرجعية (الصندوق يتبع رئاسة الحكومة مباشرةً ولا يخضع للوزير، وهنا تدخل التجاذبات السياسية).
7 ـــــ اعتماد معايير ملف تعويضات مهجري حرب تموز 2006 لجهة التسهيلات عملاً بمبدأ المساواة بين المواطنين.
8 ـــــ العمل على استكمال البنى التحتية في قرى العودة لتثبيت المواطنين في أرضهم وقراهم.
9ـــــ إنشاء هيئة وطنية للمهجرين تتكون من فاعليات المهجرين لمتابعة العودة وعمل الجهات المختصة.
10ـــــ وضع تشريعات جديدة تواكب كل هذه الملفات، وخاصة في ما يتعلق بموضوع تراخيص البناء وتمديد العمل بالقانون الرقم 322 الذي يسمح للمهجر بالبناء في عقار لا يستوفي الشروط القانونية ويعفى من الرسوم.
11ـــــ العمل على عقد مؤتمر دولي من أجل استكمال عودة المهجرين على غرار مؤتمر استوكهولم وباريس وفيينا.
12ـــــ من أجل استكمال ملف عودة المهجرين، يجب رصد مبلغ يفوق المليار دولار، لا بحسب ما تتداوله الاوساط حالياً من رصد مبلغ 250 مليون دولار فقط.