ثمة نساء رمتهن الظروف المعيشية الصعبة خارج أسوار المدرسة في الصغر، لكن يومياتهن وعلاقاتهن بالأزواج والأولاد تغيرت بعدما تابعن دورات محو الأمية. في اليوم العالمي لمحو الأمية متابعة لقصص نساء تخلصن أخيراً من عار البصمة وصار لكل واحدة «توقيع» تعتز به
عبادة كسر
عندما تشرق شمس نهار الاثنين، تتأهب لينا للقاء طال انتظاره في محيط الجامعة العربية في بيروت. ذاك الشاب الأسمر أخذ عقلها وسلب قلبها، هو جامعي في سنته الثالثة، سئمت الانتظار تحت أشعة الشمس المحرقة مربكة بهاتفها الخلوي، تقلّبه بين يديها، وإذ بها توقفني وبخجل تطلب مني أن أقرأ رسالة وصلت للتو. الحبيب أمام صيدلية x، ينتظرها بفارغ الصبر، هي لا تجيد القراءة والكتابة، والغريب أنها لا ترغب في متابعة دورة لمحو الأمية. لا تملك لينا الجرأة الكافية لتعلن لحبيبها أنها أمية، فهي تخاف أن يهزأ منها.
أم عبدو تمثّل نموذجاً آخر، تتذكر «عندما أذهب إلى المدرسة للسؤال عن أولادي، لم أكن أستطيع لفظ اسم المواد الأجنبية»، ويروي الأولاد أنهم كانوا يزوّرون دفتر العلامات، فـ«الوالدة لا تجيد القراءة والكتابة»، وتعترف أم عبدو بأنها تشعر بالغبن لأن زوجها يراها «أمية غشيمة»، وتضيف: «أشعر وكأنني آلة لفبركة الأطفال فقط».
الأميون والأميات في لبنان من أوساط اجتماعية غارقة في فقرها المدقع. بين هؤلاء من قررت أن تثور على واقع يجعلها تعيش في عزلة كبيرة عن مجريات العصر. في صفوف محو الأمية تروي نساء كيف تغيّرت حيواتهن، وعلاقاتهن بأولادهن وأزواجهن.
دنيا مرتضى أربعينية من تمنين التحتا في البقاع، تزوّجت وهي في الثالثة عشرة، واشترطت على زوجها الذي يفوقها معرفة، أن يسمح لها بمتابعة دورات محو الأمية، تقول: «أجمل شعور كان ينتابني عندما كنت ألتقط مجلة وأبدأ بتهجئة الحروف لأفك رموز الكلمة»، بعد ذلك تعلمت دنيا الخياطة، بدأت باستقبال الزبائن في المنزل ثم أصبحت صاحبة مشغل.
الفتاة الخجولة صارت سيدة واثقة من نفسها، اهتمت بشؤون أولادها المدرسية، وكانت صارمة جداً في شأن تحصيلهم العلمي، وكانوا يخافونها عندما تنص عليهم دروس الإملاء العربي، ابنتها تردد «أمي هي المثال الأعلى ونفتخر بها جداً». أما الأم فتتذكر طفولة أولادها، وحلمها الذي تحقق، باعتزاز تشير «ابني الكبير طبيب أشعة، والصغير مهندس ميكانيك، وابنتي معلمة تخرجت من كلية التربية».
زينة يعقوب التحقت أيضاً بدورات لمحو الأمية، لا شيء يُفرحها أكثر من اهتمام أبنائها بها وهي تكتب الوظائف، يتوزعون العمل المنزلي أحياناً لتتفرغ لدروسها، ابنتها راوية (14 سنة) تؤكد «أشعر اليوم بأن علاقتي بوالدتي صارت متينة أكثر، فأنا أرافقها إلى الدورة وأساعدها في وظائفها، كنت أشعر بشيء من الغبن حين يتحدث أصدقائي عن والداتهم، تلك معلمة وأخرى مهندسة، وواحدة تستطيع متابعة نشاطات أبنائها المدرسية في المنزل، فيما كنا ننجز فروضنا بمساعدة معلمة دروس خصوصية، وكانت لئيمة وتصرخ دائماً في وجهي... لو كانت أمي هي التي تقوم بذلك لاختلف الأمر».



زينب كانت تحتاج إلى مشورة زوجها في أدق الأمور، لكنها اليوم تشعر بأن ثقتها بنفسها زادت «كلما تلقيت المزيد من المعارف في الدورة، وسأسعى إلى إجراء دورة في اللغة الإنكليزية».
«الخبر العاجل على التلفزيون» لم يعد يمثّل أزمة بالنسبة إلى زينب، فهي كانت تحتاج لمساعدة أولادها أو الجيران لتفهم ما يجري، خلال الفترة الأولى من دورة محو الأمية كانت تقوم «بتهجئة الكلمات ببطء حتى يغيب الخبر عن الشاشة دون أن يتضح لي ما حدث، أما اليوم فأقرأه بسرعة».
شهادات متابِعات دورات محو الأمية تلفت بمجملها إلى جملة من المعطيات المتشابهة، الخجل يحكمهن في البدايات، بعضهن يتعرض لسخرية في المنزل، ويسمعن الأزواج يرددون المثل المصري «بعدما شاب ودوه الكتّاب»، لكن الزوجات يبدين إصراراً على التعلم، وفي مرحلة لاحقة تشتد روح التنافس بينهن، ما يؤدي إلى تطوير علاقة جميلة بينهن، علاقاتهن بأولادهن أو أحفادهن «تصير أجمل»، أجمل اللحظات بالنسبة إليهن حين يقرأن لهم القصص. كل شيء في يوميات الخاضعة لدورات محو الأمية يصير له لون آخر، التفاصيل الصغيرة التي كانت تمثّل هاجساً بالنسبة إلى سيدة المنزل تتحوّل إلى متعة حقيقة، تتغير علاقاتها بجابي الكهرباء، بصاحب الدكان، بكل من يحمل لها ورقة عليها أرقام وكلام «حالة من المباهاة وهي تحمل الفاتورة وتجيد قراءتها»، وتلحظ نظرة جميلة في عيون الولد «عندما لم تعد الأم تحتاج إليه ليقرأ لها أبسط الأمور».
بعدما كانت حياتها كلها مرهونة للآخرين، تتطور علاقة هذه المرأة بنفسها، فقد تخلصت من البصمة وصار لها توقيع تعتز به، تنفرد في غرفة لتقرأ قليلاً مثلاً، يلاحظ المحيطون بها أن المواضيع التي تناقشها صارت أكثر جدية. ببساطة تكتشف هذه المرأة أن «للحياة وجوهاً متعددة وجميلة»، وهذا الاكتشاف ينعكس على أسلوب الحياة الجديد المليء بالحيوية وحب المعرفة، ما يزيد من نشاط هذه المرأة وسعادتها في محيطها وعائلتها الصغيرة أولاً، وهنا لا داعي للتذكير بأن تأثير الأم على الأولاد كبير جداً، فهي التي تطبع شخصياتهم ومعظم ما يخزنه اللاوعي من أفكار ومعطيات.
آمال شرارة، المدير التنفيذي للجنة الوطنية لمحو الأمية في وزارة الشؤون الاجتماعية، تلفت إلى أن «محو الأمية إحدى أولويات التنمية البشرية، على أن يرتكز هذا المفهوم على أبعاد اجتماعية وحقوقية واقتصادية»، وتضيف أن إحصاءات الأمم المتحدة لعام 2003 تبين أن لبنان يأتي في الدرجة الرابعة من حيث معدل الأمية للبالغين في الدول العربية بعد الأردن والبحرين وقطر.


تشير «دراسة خارطة أحوال المعيشة في لبنان» التي أجرتها وزارة الشؤون الاجتماعية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن الفقر والحرمان يترافقان مع تدني المستوى التعليمي. وتؤكد شرارة أن 19% من تلامذة لبنان وهم في المرحلة الابتدائية وفي السنة الرابعة منها في قلب التسرب المدرسي، وهم مشروع أميين في المستقبل