نذير جزماتيمع أننا نشير إلى قوانين الصراع الطبقي عند مناقشة كل مشكلة صغيرة أو كبيرة، فإنّ مسائل الصراع الطبقي الأساسية تغيب أو تُغيَّب بقوة الصراعات الطبقية المحتدمة داخل كل بلد من بلدان حركة التحرر الوطني العربية وغير العربية، وهي في نهاية كل تحليل، انعكاس للصراع الطبقي الأساسي ما بين مجموع البشرية المنتجة في مختلف بلدان العالم، والإمبريالية العالمية، وعلى رأسها الإمبريالية الأميركية، والصراعات المكتومة أحياناً، والمعلنة أحياناً أخرى، ما بين كل إمبريالية من الإمبرياليات والإمبريالية أو الإمبرياليات الأخرى.
إلا أنها كلها تخفي هذا الصراع في الوقت الراهن في مصلحة إعلان تحالفها وتفاهمها مع الإمبريالية الأميركية التي تشغل حالياً دور القطب الأوحد. وللإمبرياليين عموماً مصلحة في إبقاء مسائل الصراع الطبقي الأساسية طي الكتمان، وإشعال وتسعير الصراعات الطبقية المحلية التي تكتسي حللاً طائفية ومذهبية وقومية... كمقدمة لا بديل منها لإخضاع هذه الدول، دول عالم التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وفرض الهيمنة عليها.
وساعد في التشوّش الذي تعانيه بعض القطاعات هنا وهناك، وحتى ساعد على إعلان انتقال البعض من صف الطبقات الكادحة المنتجة إلى صفوف العدو الإمبريالي الصهيوني، عاملان أساسيان: الأول: غياب الاتحاد السوفياتي وباقي دول المنظومة الاشتراكية في أوروبا، بصرف النظر عن الأخطاء التي كانت ترتكب والانحرافات التي أدت إلى إلحاق الهزيمة بالمعسكر الاشتراكي، وغياب المنظمة الاشتراكية عن أداء الدور المنوط بها في كشف مؤامرات العدو الطبقي ومخططاته واعتداءاته وفضحها والوقوف ضدها وحشد القوى في مواجهتها.
وأدى الغياب المذكور إلى اضمحلال الحركة الشيوعية العالمية التي كانت، مع الأسف، بمثابة فروع للحزب الشيوعي السوفياتي الذي كان حزب السلطة، أكثر من كونه حزباً شيوعياً.
وإذا كان قد بقي حزب شيوعي هنا وآخر هناك، فإنّ الفروع التي عاشت على التغذية اليومية في كل شيء من الحزب الشيوعي السوفياتي، تبدو عاجزةً تماماً.
أما الحزب الشيوعي الصيني، الذي لا يعرف غير الله إن كان قد بقي فيه شيئاً من الشيوعية غير الاسم والشعارات، فتشغله مسائل أخرى، وهي مسائل الصراع والتنافس ما بين الدول الكبرى في العالم. وما سمح للعدو الطبقي بأن يكبر أكثر وأكثر وبقوة خلوّ الساحة من أية منافسة إيديولوجية مهما كانت ضئيلة وغير ملموسة.
ويتمثل العامل الآخر بهذا العدو الذي تفرّغ تفرّغاً تاماً لتضليل البشرية إيديولوجياً من أقصاها إلى أقصاها. ولولا تسرّع المحافظين الجدد في أميركا في سعيهم المحموم لبسط السيطرة الإمبريالية الأميركية العسكرية وشبه العسكرية على العالم بأسره بقوة السلاح (ربّ ضارة نافعة)، لازدادت آذاننا وعيوننا وباقي حواسنا بلادة، بفعل الإمبريالية الإعلامية التي هي اخترعت وطوّرت وتطوّر الصحافة والإذاعة والتلفزيون والسينما، التي تقوم كلها بغسل الأدمغة في كل أنحاء العالم بألف نوع ونوع من الأفلام، من كل ما علق في هذه الأدمغة من أي أثر للشيوعية والاشتراكية والتقدمية والوطنية والعدل والمساواة... وإحلال مفاهيم وشعارات «الحياة في أميركا» محلها.
وتحقن هذه الإمبريالية الإعلامية الناس بجرعات أكبر وأكبر من مختلف أنواع الأفلام التي تناسب مختلف الأعمار، فتتحول جماهير غفيرة، وخصوصاً الأطفال، إلى مصابين بمرض الإدمان على التلفزيون الذي أصبح يؤذي الأطفال فيزيولوجياً (جسدياً) بعد أن شوّههم إيديولوجياً.
وكسبت الإمبريالية الأميركية المعركة ضد المستقبل الذي يمكن أن يهدد امتيازاتها، باستخدامها أقذر الأسلحة، ولكن وفق طرق خادعة سهلة الاستخدام. فلم يعد للوالدين ولا للهيئات التعليمية قدرة على السيطرة عليها. وما يقال عن الأطفال، يقال عن الكبار الذين يمضون الساعات الطويلة أمام الجهاز الذي لا يحتاج منهم إلى تعلّم أو كدح، بل استرخاء وإصغاء وتسليم المصير للمجهول.
وكان العالم منذ ما قبل كارل ماركس وفريدريك أنغلز، أي قبل صدور «بيان الحزب الشيوعي» عام 1847، تأكل فيه السمكة الكبيرة السمكة أو الأسماك الصغيرة وفق أشكال وآليات وطرق لا تعدّ ولا تحصى... وكان سبب الحرب العالمية الأولى أنّ السمكات الألمانيات الكبيرة شعرت بالغبن لأن السمكات الإنكليزية والفرنسية المماثلة تحصل على الحصة الأكبر من طبق الاستثمار والاستغلال العالمي، وتترك للألمانيات والإيطاليات وغيرها ما يزيد عنهم...
والأسباب التي كانت وراء انفجار الحرب العالمية الأولى كانت وراء انفجار الحرب العالمية الثانية، ولكن تغيّر بنتيجتها ترتيب السمكات، إذ أصبحت السمكات الأميركية في المقدمة ومن بعدها البريطانيات والفرنسيات... ولكن ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية، حتى بدأت الحرب العالمية الثالثة ما بين (المعسكر الاشتراكي) وفي طليعته الاتحاد السوفياتي، والمعسكر الرأسمالي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية. وكانت هذه الحرب تشبه الحربين العالميتين السابقتين، أي إنها حرب في داخل المعسكر الرأسمالي نفسه، وإلا أين جميع شعوب العالم، دون استثناء، وبالدرجة الأولى البروليتاريا؟
ومع ذلك، اختلفت الحرب العالمية الثالثة عن الحربين العالميتين السابقتين في أن المعسكر الغربي لم يكن يخاف على أرباحه من مزاحمة الاتحاد السوفياتي على أسواق العالم، ذلك أن هذه المعركة كانت محسومة لمصلحة المعسكر الغربي، لكن كان يخاف من أن تتولد في داخل المعسكر الآخر (الاشتراكي) شيوعية واشتراكية صحيحتين، معاديتين للديكتاتورية الستالينية الإقطاعية، ولرأسمالية الدولة المستترة تحت ألوية حمراء، ورسم للمنجل والمطرقة، وتماثيل وأصنام لها طابع ديني، وكتب مقدسة لا تقرأ وإذا قرئت لا تفهم وإذا فُهمت لا تطبّق لألف سبب وسبب، ومن يخالف هذه القاعدة يذهب إلى جهنّم وبئس المصير!