نوال العلي
مَن يعير هذا الشيخ سنوات عمر جديدة؟ يسأل حالماً ونادماً على شخصية فاته أن يجسّدها: دور آرتورو في مسرحيّة بريخت الشهيرة “صعود آرتورو أوي” The Resistible Rise of Arturo Ui. يقول إنّه ضيّع وقتاً كثيراً، لكن مَن يسمع منه ما رأى وعاش وعمل، يشعر بأنّ الرجل لم يفوّت لحظة بعيداً عن الفنّ الذي أحبّ.
كان له في بيروت موعدٌ مع الراحل كامل شيّاع في 1 أيلول (سبتمبر)، لكنّ الموت سبق المواعيد كلّها. حضر يوسف العاني من عمّان، حيث يقيم، ولم يحضر صديقه، فقد كان على موعد آخر مع القتلة. هنا، في بيروت، ينتظر الجدّ أن يصل أحفاده لرؤيتهم أيضاً، هذا هو الشتات. تلمَح آثار التنكيل على العراقيّين إذا مروا بجانبه في شارع الحمرا. يعرفونه على الفور، يطلبون صورة إلى جانبه، مستعيدين معه مسلسلاً تلفزيونياً أو فيلماً أو مسرحيةً، ويتبادلون الحنين... إنّه ذاكرتهم.
كيف لا؟ وقد صرف يوسف العاني (1927) جلّ حياته في خدمة الفن العراقي. وقع في غواية المسرح ولمّا يتجاوز العاشرة، حين استبسل للحصول على دور يوسف الطحان على الخشبة المدرسية. ولدى وقوفه للتمثيل أمام المسرحي حقي الشبلي، قال له “أنت لا تصلح للتمثيل، فتّش عن شغلة أخرى”. ربما كان التحاقه بكلية الحقوق، انصياعاً موقتاً لنصيحة الشبلي، لكنّ الفنان سرعان ما عاود الظهور، وكان الوقوف الأول للعاني ممثّلاً على مسرح بغداد (1944)، وقد كتب نصّ“القمرجية” وأخرجه. هكذا بدأت علاقته المركّبة مع أبي الفنون، ضرباً من الارتجال والمغامرة التي خاضها شغوفاً بلا خلفية ثقافية تسنده. هذه التجربة كشفت، رغم بساطتها، “أنّ المسرح يفضح تخلّف النظام الحاكم إذا تناول تناقضاته بصدق”. إذ قيل له إنّ وجود شرطي مرتشٍ يعني أنّ صاحب العمل هو من المعارضين للنظام!
كان العاني معارضاً دائماً، خرج في أول تظاهرة وهو في الرابعة عشرة، وعاصر عهوداً متناقضة من الملك فيصل إلى غازي، ثم فترات الانقلابات، فأيام عبد الكريم قاسم... وصولاً إلى أزمنتنا المضطربة. لكنّه بقي في بلده كل تلك الحقبات الصاخبة، ولم يغادر العراق إلّا مضطراً. اعتقل أكثر من مرة، ولنقل إنه كان محظوظاً في المعتقلات. إذ كان السجن رحماً لعلاقات نادرة وثمينة. هنا بدأت صداقته مع محمد مهدي الجواهري ومظفّر النوّاب. المسرح الذي سبّب أسر العاني كان مخلّصه أيضاً. في 1952، مرّن المحامي الشاب السجناء على تمثيل مسرحيتين: “مسمار جحا” و“ماكو شغل”. وفي ممر المعتقل الطويل، بدأ العرض الذي قوبل بصخب السجناء واستحسانهم وسخط المسؤولين، فأمر الحاكم العسكري آنذاك نور الدين محمود بمحاكمته سريعاً ليطلق سراحه. فهو في الخارج لا يستطيع التمثيل من دون موافقة الجهات الأمنية، لكنّه في السجن يفسد كل شيء!
في الخارج، ثمة مسرح كبير اسمه العراق، ينهل منه العاني قصص مسرحه الصغير، فتتوالى الكتابات والبطولات “مع الحشاشة” ثم “طبيب يداوي الناس” التي عرضها وكان لا يزال طالباً في جامعة بغداد، حيث أسس ورفاقه جمعية “جبر الخواطر” التي قدمت العديد من العروض في حرم الجامعة.
بعد التخرّج من كليّة الحقوق (1950)، عاد فالتحق بمعهد الفنون الجميلة لدراسة التمثيل، مقدّماً نقده السياسي في مسرحيّات إشكاليّة على خشبة الكلية: “كان الحديث عن كل ثورة من ثورات شعبنا القديمة يعتبر سُبّة في وجه الحاكم وتحريضاً عليه”. لهذا، فُصل الشاب المشاغب من المعهد وهو في سنته الأخيرة، فأسّس فوراً مع الفنان الراحل إبراهيم جلال «فرقة المسرح الحديث» (1952) التي ستعدّ مفترق طرق في تاريخ المسرح العراقي.
في تلك الأثناء، بدأت تراوده فكرة التمثيل في السينما. هو الذي تصالح مع الفن السابع بعد عداوة تعود إلى أيام الطفولة. ذات يوم، ذهب إلى فيلم “طرزان” في سينما “الوطني” في بغداد، وراعه مشهد الأسد الذي يأكل غزالة، فعاد إلى البيت مرتعداً، ليجافيه النوم ليالٍ... واضطرت والدته إلى اصطحابه إلى “المُلا” ليطرد عنه الأرواح الشريرة. وأقسم ألا يعود ثانية إلى الصالة المعتمة...
كانت السينما العراقية مجموعةً من أفلام المغامرين، أو استنساخاً عن أفلام مصرية ساذجة. ومع عودة كامران حسني من أميركا حيث درس الإخراج السينمائي، جاءت أولى المحاولات الجادة لتأسيس سينما عراقية مختلفة. قرأ كامران حسني قصّة “شجار” للأديب العراقي إدمون صبري، ثم عرضها على العاني الذي أعجب ببطل القصة “سعيد أفندي”، ووافق على كتابة السيناريو وتمثيل دور سعيد. وفعلاً، بدأ تصوير الفيلم في منطقة الحيدر خانة في ظروف صعبة مادياً وفنياً. سافر مدير الإنتاج عبد الكريم هادي إلى سامراء ليستدين ثمن الأفلام الخام. أما إبراهيم جلال، فاختلف مع رؤية المخرج واستقال. العاني كان يحرد أيضاً ويختبئ في أماكن لا يمكن لأحد أن يعثر عليها. “كان يفترض أن المَشاهد في الصيف، والفرش الموجود لا يستعمل في الصيف لذلك زعلت”. ورغم كل شيء، ظهر الفيلم وبدا واضحاً تأثّره بالواقعية الإيطالية الجديدة، ولاقى نجاحاً في العراق، فيما رفضت دمشق والقاهرة عرضه: “الرفض كان يعني عدم دخول أي فيلم عربي في منافسة مع الفيلم المصري”.
أمّا المسرح، فكانت الخمسينيات عصره الذهبي بحق. وقف خلف تأسيسه مثقفون شبان بأفكار تقدّمية، ومنهم العم يوسف الذي سافر إلى ألمانيا (1957)، بعدما لوحق ومنعت مسرحياته من العرض، وبات يكتب بأسماء مستعارة. وفي أوروبا، عاش حياة التقشّف كي يتمكّن من التنقل بين مسارح لايبزغ وبرلين، ثم ميونيخ وموسكو ففيينا. كان يقيم لدى الأصدقاء ويقتِّر على نفسه، حتى سبّب سوءُ التغذية نخر أسنانه ومرض عينيه. وبعد عودته من رحلته تلك، قدّم لأول مرة في العالم العربي “رسالة مفقودة” لكارجياله (1959) و“الخال فانيا” لتشيخوف (1961)، وظهرت له مسرحيّات جديدة (كتابة وإخراجاً وتمثيلاً) “الخرابة”، “المفتاح”، “بغداد الأزل بين الجد والهزل”، حتى بلغ رصيده أكثر من أربعين عملاً.
الستينيات، كانت السنوات الأصعب: “السياسة غير المتّزنة تفرّق الأحبة بلا مبرر، والظرف الذي عاشه العراق تلك الفترة وضع الجميع في غربة وخوف”، ودفع العم يوسف إلى الرحيل. هكذا جاء إلى لبنان في عام 1964 وأمضى هنا أربع سنوات. في البداية، شعر الفنان أنّه انتهى، لا يمثّل، ولا يكتب، حتى ذهب ذات ليلة إلى المسرح وشاهد “الليل والقنديل”، مسرحيّة الرحابنة الشهيرة. ربما كان العاني المتفرّج الوحيد الذي عاد باكياً إلى منزله تلك الليلة، ليكتب مقالة نقدية رأى فيها أنّ الضعف في مسرح الرحابنة أساسه أنّ الرقص وحده متقن، مثلما هو الغناء والتمثيل. لكنّ الربط بين كل ذلك ليس عملاً محترفاً. من هنا بدأت صداقته مع الرحابنة الذين سمعوا اقتراحه، وأسندوا إلى يوسف شاهين، المقيم في بيروت آنذاك، مهمّة نقل أوبريت “بياع الخواتم” إلى الشاشة الكبيرة. هكذا عاش متنقلاً بين الفنون جميعها: الكتابة فالتمثيل، مرةً على خشبة وأخرى في السينما، وثالثة على الشاشة الصغيرة أيضاً. وهو بين قلّة من أهل المسرح العربي جمعت بين التمثيل والكتابة معاً: “سرت في دربي أعمل على تطوير الحالتين معاً حتى صارتا حالة واحدة”. والآن، يقف يوسف العاني بعيداً عن الخشبة. لا مسرح في بغداد، المدينة متروكة وحدها مع الجنود، أهل الفن والثقافة حزموا أمتعتهم إلى المنافي! ومَن عاد منهم لقي ما لا يحب. ومنهم مَن ينتظر. على هذه الحال، يعيش يوسف أفندي، أبرز رموز المسرح العراقي الحديث، محكوماً بالأمل. لقد غادر العراق كي يعود إليه في يوم قريب.


5 تواريخ

1927
الولادة في بغداد
1944
عرض «القمرجية»، أولى مسرحياته.
بعدها بثماني سنوات سيؤسّس «فرقة المسرح الحديث»
1957
فيلم «سعيد أفندي» ــــ اكتشاف المسرح البريختي في برلين، والمسرح الروسي في «مهرجان الشبيبة الديموقراطية» في موسكو
1964
في بيروت، كتب سيناريو «وداعاً لبنان»، وأخرج مسرحية “عيلة أبو المجد” مع الفنّان محمد كريم
1998
التكريم في «المهرجان الرابع للسينما العربية» في باريس