عندما كنت صغيراً، كنت مهووساً بالساعات فأشتري ساعة كلمّا تيسّر لي أن أدّخر القليل من المال. كانت ساعات ذات عقارب لطيفة أو أخرى رقمية خفيفة تعدّل الوقت بعد مرور أيام على تشغيلها. لم أكن أعلم سبب هذا الهوس إلا أنه زال مع مرور السنوات.كنت أعبد الساعات، فحياتنا لم تكن مرتبطة إلا بالوقت. فعند الثانية من بعد الظهر كانت تبدأ مرابض الجيش قصف مناطق القوات اللبنانية ولا تستثني الضاحية الجنوبية، وتستمرّ ساعات يستحيل خلالها الخروج من المخبأ. وعند السابعة من مساء كل يوم، كان يجول بعض العناصر يوزّعون بعض كراتين الإعاشات، في الأطراف الأخرى تردّ النيران على أحيائنا. انتهت المعارك، فانتقل الهوس بالساعات إلى المدرسة، فكنت أحسب كم بقي من حصة الرياضيات أو اللغة العربية بانتظار أن يرنّ جرس الاستراحة.
بتّ اليوم بغنى عن عداد الوقت. فعندما يبدأ الصداع أعلم أني أمضيت يومي أدخّن وأشرب القهوة وراء مكتبي. وعندما يضيق صدري وتتوتّر أعصابي أعرف أنّ مفعول الكحول زال من دمي بعد مرور أكثر من 12 ساعة. وعندما أعود في المساء إلى المنزل أعرف أنه زاد يوم على وحدتي. وعندما أجول بالقرب من «سوليدير» أدرك أنه مرّ أكثر من عشر سنوات على تهديم بيوت ومتاجر صغار تجار بيروت. وعندما أشاهد نشرات الأخبار أعرف أنه مضى على بدء الحرب الأهلية 33 عاماً.
لم أعد أحمل ساعةً يدوية، فالوقت لم يعد ذا قيمة لأن الأفعال لم تعد مرهونة بالعقارب. إلا أنّ ثمة من يعتبر الوقت ذا قيمة على اعتبار أنه يعادل المال؛ كمن استفاد من الحرب الأهلية وبناء سوليدير، أو كمن قرّر السفر بحثاً عن عمل (فهم يراهنون على عدد سنوات الابتعاد عن الوطن)، وكل من يسبّب لي شرب الويسكي والعودة وحيداً إلى المنزل... كل هؤلاء في كانتون واحد يتّبعون مذهب «الوقت = المال».
أرى أنّ الوقت = صفر، إذاً المال = صفر، فرغم استعجالي الخروج من حصة الرياضيات تعلّمت هذه المعادلة البسيطة.

نادر...