في منطقة المنصورية عين نجم ــ سعادة، أثيرت محاولات لاستكمال مشروع خط التوتر العالي بقوة 220 ألف فولت الذي يربط لبنان والأردن وسوريا، محاولة وُوجهت بقسوة من أهالي المنطقة الخائفين من آثار هذه الخطوط على صحتهم، ولا سيما أن الخطوط تمتد على مقربة من تجمع مدارس في المنطقة.

خضر سلامة
في حزيران 2001، عقد 21 خبيراً من عشر دول مؤتمراً في مدينة ليون الفرنسية، في رعاية المركز الدولي للأبحاث السرطانية (CIRC)، خلصوا فيها إلى نتيجة تؤكد أن عاملَي وجود خطوط التوتر العالي، والنسبة المرتفعة للإصابة بلوكيميا الأطفال، مترابطان بشكل يستبعد إعادته إلى «الصدفة»، المؤتمر رفع توصية بتصنيف هذه الخطوط الكهربائية التي تقيم حقلاً مغناطيسياً في منطقة وجودها، على أنها من «المسبّبات السرطانية المحتملة»، التي لا تنتفي مخاطرها مهما ازداد علوّ الأعمدة والأسلاك عن الأرض.
تهديد اللوكيميا
في العام نفسه، نشر الدكتور سام ميلهام بحثاً أكد فيه وجود صلة بين المعدّات الكهربائية الضخمة ومرض اللوكيميا في الولايات المتحدة.
في عام 2005، نشرت المجلة الطبية البريطانية، دراسة إنكليزية أفادت أن معظم الأطفال المقيمين في محيط خطوط الكهرباء ذات التوتر العالي معرّضون أكثر من غيرهم للإصابة بلوكيميا الأطفال، «سرطان الدم». وقاد الدكتور جيرالد درابر، من جامعة أوكسفورد، طاقماً من أبرز الكفاءات الموجودة في حقل سرطانات الأطفال، في بحث وُصف بأنه الأضخم في تاريخ الأبحاث الجامعية، والأكثر تمويلاً، مقارناً بين حالات أطفال معرضين وغير معرضين لهذا العامل المغناطيسي، وقد جرت دراسة معطيات جُمعت لنحو 33 عاماً (من 1962 حتى 1995) وشملت 35 ألف طفل مصاب باللوكيميا.
الدراسة توصلت حينذاك، إلى أن 69 % من الأطفال المقيمين منذ الولادة في محيط لا يزيد قطره عن 200 متر من خطوط الكهرباء ذات التوتر العالي مهدّدون بالإصابة بالسرطان، الفريق الباحث فوجئ بأن 23% من الأطفال المقيمين في قطر من 200 إلى 600 متر مهدّدون أيضاً. وذلك رغم أن الحقل المغناطيسي المفتعل من جانب الكهرباء يُفترض أن يكون ضعيفاً نسبياً عند هذه المسافة، وأكدت دراسة صادرة عن جامعة تورنتو أن التعرّض لموجات التوتر العالي يضاعف خطر الإصابة باللوكيميا أربع مرات.
رغم أن العلماء والفيزيائيين لم يستطيعوا بعد الجزم بكيفية تحفيز هذا العنصر للوكيميا الأطفال، فإنّ الجورنال الطبي علّق على الدراسة بالتذكير بأن هذا المرض يُسبَّب عادةً بفعل عاملين: إما بسبب خلل في الحمض النووي قبيل الولادة، وإما بفعل التلوّث البيئي والإشعاعي بُعيد الولادة، تاركةً المجال مفتوحاً أمام التساؤلات والحذر الشديد من السكن قرب خطوط التوتر العالي «القاتلة».
في تموز 2000، نشر البروفسور روبرت آشلي في مجلة «سبيكتروم» المختصة بالهندسة الكهربائية، دراسة أشار فيها إلى مدى تأثير الإشعاع الكهربائي على الأطفال القاطنين في صورة دائمة تحت خطوط التوتر العالي، الذي تنتج منه الإصابة باللوكيميا، على المدى البعيد، إضافةً إلى خلل في نسبة الحديد في الدم.
وقد صدرت دراسة عن جامعة بريستول عن 10 آلاف مصاب بسرطان الرئة لتعرّضهم للحقول الكهرومغناطيسية، وتوفي منهم 3 آلاف.
مركز الوقاية من أمراض السرطان الكندي، أشار إلى تعاون علمي بين منظمة الصحة العالمية، والوكالة الأميركية لحماية البيئة والرابطة الكندية للصحة، فثبتت خلاله الصلة التصاعدية بين نسبة مؤشر الحقل الكهرومغناطيسي ونسبة الخطر السرطاني على الأطفال المقيمين في محيطه. التعليمات التي ينشرها المركز تقضي بنصح المواطنين بالابتعاد عن السكن قرب هذه الخطوط، أو الطلب من الشركات المسؤولة قياس الكهرومغناطيسية في محيطهم، ورغم هذا التحذير، فإن التعرض الكهرومغناطيسي لم يصنّف بعد رسمياً على أنه سبب مباشر مؤكد للسرطانيات.
دراسة لبنانية
الدكتور سليم أديب رئيس قسم صحة المجتمع في كلية الطب في جامعة اليسوعية أعد دراسة عن الموضوع بتكليف من نواب المنطقة بالتوافق مع مؤسسة كهرباء لبنان. شدّد فيها على أن « مرور تيار التوتر العالي في مناطق سكنية أمر لا يمكن إثبات عدم خطورته، ومن هنا وجب مراعاة مخاوف الناس على صحتهم وصحة أطفالهم».
أديب لفت إلى مجموعة نقاط أهمها أن الجهة التي أجرت الدراسة لمصلحة كهرباء لبنان، على ما يبدو، هي الجهة المنفّذة للمشروع، أي كهرباء فرنسا، وفي ذلك تضارب للمصالح غير مقبول من ناحية المناقبية العلمية. وقال إن القياسات الاختبارية المقدّمة في الدراسة الحالية لقوة التيار الكهربائي والحقل المغناطيسي الناتج من خطوط توتر عالٍ كالتي ستحصل في شبكة النقل هي «مقنعة». وقد أفاض التقرير بكون التيار الكهربائي معدوماً إذا ما قيس داخل المنازل على جانبي الشبكة، لكنه لم يستفض في التحدث عن قوة الحقل المغناطيسي الذي يتعدّى عموماً حد اللاخطورة (0.3 uT).
من ناحية صحة المجتمع، أكد أديب أنه عندما لا يمكن الجزم بعدم وجود خطر مهم ومستمر على الصحة على المدى الطويل، يفضّل أن يعمل بمبدأ الحرص. و«الدولة الحريصة تسهر على الحدّ من الخطر على المواطن لا على زيادته، وخاصة إذا وُجدت بدائل تقنية سليمة وعملية يمكنها أن تضع حداً لشك المواطنين وهلعهم. والبديل السليم الذي لا جدال فيه هو اعتماد الخطوط المطمورة عندما يتعذّر تفادي المناطق المأهولة».
ويضيف إنه لا أحد يمكنه التأكد من «أن لا تأثير لمرور التيار على إمكان حدوث السرطان. وغيره من الأمراض، لدى القاطنين مباشرة على جوانب خطوط التوتر».


وقفة

كنعان: لن نكون حقل تجارب

نائب منطقة المتن إبراهيم كنعان انفرد، في مجلس النواب، بالحديث عن خطر يهدّد صحة 12 ألف طالب موزّعين في 5 مدارس في المنصورية. وهذا الخطر سببه أعمدة التوتر العالي التي «كان مقدراً لها أن تمر في الأحراج القريبة في أواخر التسعينيات، ولكن صودف أن الأحراج ملك لنافذين في تلك المرحلة، تدخّلوا لدى سلطة الوصاية لتغيير سير المنشآت، فاستبدلت الأضرار الاقتصادية المحتملة لأفراد بخسائر اقتصادية والأهم، صحية، لأهل المنطقة».
ويضيف كنعان أن الدراسات «صحيح أنها لم تجزم بشكل قاطع الانعكاسات السرطانية لأعمدة التوتر العالي على الأطفال، ولكنها تؤكد وجود احتمال بذلك، وهذا، في الدول التي تحترم مواطنيها، سبب كاف لاتخاذ تدابير احترازية تلغي هذا الخطر، ولا تكرّسه كواقع في منطقة يسكنها 30 ألف نسمة». أما عن التعاطي الرسمي مع المطالب والاعتراضات التي أثارها في الدوائر الرسمية، فيشير كنعان إلى أنه غداة التلاسن الكلامي بينه وبين النائب محمد قباني، اجتمع بالرئيس فؤاد السنيورة على انفراد، فشكك الأخير في التقارير الصحية وتحجج بعدم وجود أموال كافية لاستبدال الوصلات الكهربائية بأخرى تحت الأرض. ويضيف كنعان «ذهب أحد المسؤولين بعيداً بالاستهتار بالموضوع فقال عندما يصاب أحد أطفالكم بالسرطان، عندها سنوقف المشروع». ويتساءل كنعان: «هل يريدون أن يجعلوا أطفالنا حقل اختبار لمخاطر قد تمتد عشر سنوات أو خمس عشرة سنة؟».
استند نائب المتن إلى وثائق ودراسات اعتمد عليها مع الأهالي والمسؤولين عن المدارس للاحتجاج على المشروع، وأكد أنه جرت الاستعانة بالدكتور سليم أديب. ولفت كنعان إلى عدم وجود أي مختص بالشؤون الصحية في شركة الكهرباء التي اكتفت بتقديم تقارير تقنية للمراجعين، «إضافة إلى أنها طرف في النزاع»، كما لفت إلى عدم تدخّل وزارة الصحة داعياً «إلى اللجوء إلى طرفٍ ثالث محايد ومتخصص يحكم بين الرأيين». وذكر لـ«الأخبار» أن مرجعاً سياسياً كبيراً كلّف الوزارة أخيراً دراسة القضية.
ما هي البدائل؟ يطالب كنعان الحكومة بـ«رصد الميزانية اللازمة وتغيير كامل خطة الربط الإقليمي»، وقد شدد على «أن لا تراجع في مسألة صحة الناس، ولن نقبل بأن تُصرف مئات الملايين في أمكنة أخرى على حساب المتن، وإلا أعتُبر الأمر استهدافاً سياسياً، فيما ما زلنا نصنفه في إطار انساني بحت، إلا أن استمرار التعنت في إنصاف منطقتنا يفتح الباب أمام أسئلة مشروعة».
ويصر كنعان: «لسنا هواة افتعال مشاكل، بل نريد خلق الحلول، بشكل يضمن مصلحة الدولة المشروطة بمصلحة المواطن»، مؤكداً أن لدى أهالي وبلديات ومدارس المنطقة رغبةٌ في المبادرة للتعاون مع الدولة، داعياً إلى عدم اعتماد أساليب الخداع، «فبعدما اتفقنا مع رئيس الحكومة على تأجيل إكمال المشروع إلى حين التوصل لاتفاق يرضي الطرفين، فوجئنا منذ فترة بأنه جرى إرسال فرق أمنية لتركيب المنشآت بالقوة وفي غفلة من المواطنين، أوقفت عند حدها حينها».
كلام النائب كنعان النابع «من قضية إنسانية بحتة المطلوب عدم تسييسها»، يفتح السؤال بشدة على مدى الوعي الرسمي لأهمية الأمن الصحي في لبنان، وعلى وعي الدولة وتماشيها مع التحذيرات والدراسات العلمية العالمية والمحلية، عدا عن الحاجة الجدية لإيجاد إدارات استشارية في المؤسسات الخدماتية، تُوكَّل بالقضايا الصحية.
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن مبادرة نواب المنطقة إلى تحمّل مسؤولية الدفاع عن صحة المواطنين أمام الأخطار المحتملة للحقول الكهرومغناطيسية الناتجة من خطوط التوتر العالي تترك مجالاً لبحث تقصير نواب مناطق أخرى تجتازها الخطوط إياها، في الجية وعلى مدخل مدينة طرابلس وغيرها، تعبر فيها الأعمدة مناطق آهلة بالسكان، محمّلة بتساؤلات عمّن يرعى مصلحة المواطن.. التي تبقى في دساتير الدول، فوق كل مصلحة.
خضر...