الشاب الذي ترعرع في مخيمات اللجوء الفلسطينيّة، ودرس العمارة والحفر في بولندا، صار الابن السعيد للدراما السورية. صمّم سينوغرافيا أشهر المسلسلات، وابتكر الفضاء البصري لأبطال يسكنون اليوم ذاكرتنا. وفي معمعة العمل التلفزيوني يجد وقتاً للرسم: معرضه الباريسي في الخريف المقبل

منار ديب
في عام 1997 حين كُلّف ناصر جليلي تصميم ديكور مسلسل «تاج من شوك»، لم يكن الشاب الفلسطيني الذي درس العمارة والحفر في بولندا يعلم أنّه يدخل عالماً جديداً، سيغيّر حياته، ويجعل منه شريكاً حقيقياً في صناعة الصورة التي نعرفها اليوم للدراما السورية.
كان شابّاً متحمّساً من الكوادر المتفرّغة في الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، حين وصلت البعثة الدراسية التي انتظرها طويلاً... لكنها لم تكن في مجال الإخراج السينمائي كما تمنّى! هكذا وجد نفسه عام 1989 في «جامعة ووج» البولونية، يدرس الهندسة المعماريّة، متخصّصاً في ترميم المباني التاريخية، كما درس الحفر والغرافيك. في ووج، تعرّف إلى شاب تونسي حقق الحلم الذي لم يمكَّن هو من بلوغه: دراسة السينما. إنه شوقي الماجري الذي سيمنحه دوراً في فيلم تخرّجه «شهرزاد» (1993)... وستتقاطع دروبهما مراراً في المستقبل.
بعد عودته إلى سوريا في العام التالي، عمل ناصر في تصميم الديكور الداخلي للفيلات، وكان يمكن أن ينتهي الأمر عند هذا الحدّ. لكن صديقه القديم جاء إلى سوريا، عام ١٩٩٧، لإخراج مسلسل «تاج من شوك» من تأليف رياض عصمت عن قصص شكسبيرية. كان ناصر ينتظر شوقي الماجري في مكتب «شركة الشام» التي تزمع إنتاج العمل. تأخرت طائرته، وطالت الدردشة مع مدير الإنتاج صلاح طعمة الذي قال لناصر إن مهندس الديكور المكلف العمل للمسلسل قد انسحب، وسأله إذا كان يهمّه أن يخوض تلك التجربة. تردّد ناصر جليلي لأنّه لم يكن يملك أية خبرة في هذا المجال... ما همّ، فلتكن مغامرة. مدير الشركة أيمن زيدان كان متحمساً يومها لإشراك طاقات جديدة، فرحّب به وشجّعه على خوضها. وكان أن حرّك ذلك العمل التاريخي ــــ الفانتازي مخيلة المهندس الشاب الذي اجتاز الامتحان بتفوّق.
نسأله عن علاقته بالديكور، فيتحدّث عن «السينوغرافيا التلفزيونية»: «أنا أصنع الفضاء البصري، أخلق الحيّز الذي سيتحرك فيه الممثلون». الجانب البصري يهمّه كثيراً، إنما... «ليس على حساب الواقعية». لذا ينسّق طويلاً مع المخرج ومصمم الملابس، ويتدخل في الأكسسوار. التصميم لديه رحلة معرفية: «أقرأ كثيراً عن المرحلة التي تدور فيها الأحداث، أبحث عن الرسوم والصور المتاحة كي أعكس الإطار الزمني بأمانة». بل إن قراءة السكريبت أساسيّة له، لأنّه يريد أن يتعرّف عن كثب إلى تلك الشخصيّات التي ستسكن عالمه.
بعد عامين على التجربة الأولى، عاد الجليلي للعمل مع الماجري على «إخوة التراب ـــــ الجزء الثاني»، وتدور أحداثه في نهاية الإمبراطورية العثمانية. وكان عليه أن يصمّم المشاهد الحربية، والقطارات... اختار السيارات القديمة، وصنع دبابات تشبه تلك التي استُعملت في الحرب العالمية الأولى. وأثبت حضوره على الساحة بشكل راسخ ونهائيّ.
ثم قفز، في السنة نفسها، إلى الكوميديا المعاصرة، مع «بطل من هذا الزمان» الذي يعتمد على ديكور الاستوديو. وعمل مع باسل الخطيب في «جواد الليل»، وأيمن زيدان في «ليل المسافرين». لكن عام ألفين هو الذي سيمثّل نقطة التحوّل في مسيرة ناصر الجليلي. فقد التقى المخرج حاتم علي في العمل التاريخي الكبير «صلاح الدين الأيوبي». وهذا اللقاء لم ينقطع منذ ذلك الحين، صار الجليلي جزءاً من الهويّة الخاصة لأعمال حاتم علي... وكان أن تجاوزت سمعته الأوساط الفنية الضيقة ليصبح معروفاً على المستوى الإعلامي وفي الشارع. فكما قدمت الدراما السورية الجديدة نجوماً ومخرجين وكتّاباً، قدمت أيضاً مصمّمين ومؤلفي موسيقى بارزين. ناصر هو الابن السعيد للدراما السوريّة!
في «صلاح الدين» أعاد بناء سور القدس، على امتداد 114 متراً وارتفاع 14 متراً، في منطقة خان الشيح جنوب دمشق. كما صنع مجسّمات بحجم ٧ x ٧ أمتار، للقدس ودمشق والقاهرة، جرى تكبيرها بواسطة الغرافيك وإدخالها في صلب المشهد كخلفية. وستكر السنوات والمسلسلات: «هولاكو» مع باسل الخطيب في 2001. وفي العام التالي بدأ مع حاتم علي السلسلة الأندلسية، «صقر قريش»، «ربيع قرطبة»، «ملوك الطوائف»... اكتشف المغرب كموقع تصوير يقدم إمكانات هائلة. لكنّه لم يكتفِ بتوظيف المباني الأثريّة بل أعاد خلقها بأثاثه وأكسسواراته، كي ينبعث التاريخ من أرجائها. «مهنتنا هي فنّ بعث الحياة في المادة الجامدة». لذا يلجأ إلى الغرافيك فيصنع مدينة كاملة، مازجاً بين الحقيقي والافتراضي بحرفية عالية.
ثم جاءت «التغريبة الفلسطينية» عام 2004، مع حاتم علي أيضاً، لتعيده إلى تجربته الشخصيّة. ابن لاجئين فلسطينيين، سيجد في المسلسل حكايته. في منطقة الحصن في محافظة حمص، بنى الجليلي قرية كاملة، وخلق صورة شديدة الأمانة عن فلسطين الريفية. بنى مخيّمات اللاجئين الأولى، التي تحوّلت إلى أبنية عشوائية: «استفدت كثيراً من ذاكرة والدي الذي عاش النكبة، ومن كتب مصورة بينها «قبل الشتات» لوليد الخالدي، ونصوص كيوميات أكرم زعيتر والموسوعة الفلسطينية...».
التاريخ ليس المجال الوحيد الذي يبرع به. فقد أخذه حاتم علي إلى أعمال معاصرة مثل «أحلام كبيرة» و«عصي الدمع»... وصولاً إلى «على طول الأيام» (2006)، ثم «الحصرم الشامي» (2007) حيث رأى المشاهد أخيراً بيوتاً دمشقية متواضعة، بعيداً عن القصور ووجهائها. ولا ينبغي أن ننسى بداياته في السينما مع «حسيبة» لريمون بطرس.
هذا العام لا نبالغ إن قلنا إنّ بصمات ناصر الجليلي على أبرز مسلسلات الموسم: من «صراع على الرمال» إلى «أولاد القميرية»، مروراً بـ«الحوت» و«أهل الراية»، و«فنجان الدم». وفي هذه المعمعة يجد وقتاً لممارسة ولعه القديم في الرسم: معرضه المقبل سيكون في باريس، خلال تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.


5 تواريخ

1962
الولادة في دمشق لعائلة
فلسطينية لاجئة من عرابة قضاء جنين
1989
دراسة الهندسة المعماريّة والحفر في جامعة ووج ــــ بولندا لمدّة أربع سنوات
1997
خطوته الأولى في عالم الديكور
مع «تاج من شوك» لشوقي الماجري. بعدها بثلاث سنوات سيلتقي حاتم علي في «صلاح الدين الأيوبي»
2004
مسلسل «التغريبة الفلسطينية».
وفي العام التالي حاز «جائزة أدونيا للدراما السورية ــــ فرع الديكور»
2008
ضيف حلقة خاصة من برنامج «حالة إبداع» على «الجزيرة»