لا يحب اهالي مدينة «الميناء» في الشمال، ان ينسبوا الى طرابلس، مع ان اسم «الميناء» يشير بوضوح الى علاقتها العضوية بطرابلس. وهي وإن أصبحت مدينة قائمة بذاتها بعد ان كانت مجرد «ميناء»، إلا انها لم تقطع بعد حبل السرة مع والدتها، ولو انها تتميز عنها، ككل الأبناء المراهقين، بانها لا تنام باكرا. اما في رمضان فهي متنفس لأصحاب الخيارات الدينية والدنيوية غير المتشددة
الميناء ــ نسيم عرابي
اعتاد سكان أحياء الميناء وكورنيشها حركة الرواد طوال أشهر السنة. فالمدينة هي رئة ومتنفس لفقراء طرابلس وجوارها حتى عكار. هنا المتنزه الهادئ بجوار البحر، ومحلات بيع البوظة والمقاهي، وإلى هنا، في الليل، يلتجئ محبو السهر والغناء والشراب، وخصوصاً بعد اعتصام عاصمة الشمال بالتشدد الديني، ونومها المبكر الضجر. كذلك فإن رخص الأسعار مقارنة بطرابلس ومقاهيها، يشارك في جذب الزبائن. أما أن يتزامن بحر أيلول الهادئ وطقسه اللطيف مع حلول شهر رمضان، فهذا باختصار ما يجعل من مدينة الميناء مدينة للسياحة الشعبية بامتياز.
يبدأ نهار الميناء هادئاً. حركة السير طبيعية، وكذلك المارة. مع اقتراب وقت الإفطار، تظهر الحركة بوضوح عند عربات بيع عصير الخروب والسوس المنتشرة في كل زاوية. مع غروب الشمس، تكاد الحركة تنعدم في الشارع. حينها فقط، يستطيع المرء رؤية الزينة التي ملأت أبواب المحال ورفعت على أعمدة الكهرباء. ما هي إلا نصف ساعة من صافي «طرطقة» الصحون والملاعق، حتى تعاود المحال فتح أبوابها للزبائن. يمتلئ «شارع رشيد كرامي» الرئيسي الذي كان يعرف بشارع «بور سعيد» بالمتنزهين. لوهلة لا تعرف من أين أتى كل هؤلاء. تظن أنك في مدينة «مومباي» الهندية لكثافة المارة والسيارات! لكنها «حركة بلا غلة»، كما يصفها عز الدين، وهو صاحب محل لبيع الحلويات العربية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من عادات رمضان. لا يخفي عز الدين أن هناك «تراجعاً ملحوظاً في البيع هذه السنة»، لارتفاع أسعار المواد الغذائية التي تصنع منها الحلويات. «صار الزبون يبتاع نصف كيلو بدل الكيلو». بالإضافة إلى مشكلة قطع الكهرباء «التي إن صادف وقت تقنينها السادسة مساءً، فلا أحد يرغب بعدها بشراء القشطة خوفاً من أن تفسد». يفتقد عز الدين الزبون البيروتي «الدفّيع» كما يصفه، نظراً لوضع طرابلس الأخير الذي اتسم بالتشنج بعد أحداث باب التبانة وجبل محسن الأخيرة، وقبل وثيقة المصالحة الطرابلسية.
أما مروان، وهو صاحب أحد أهم المقاهي ومحلات بيع البوظة على الكورنيش، فيشكو بدوره تراجعاً بنسبة 80% عن العام الماضي. يرد ذلك إلى الوضع الأمني المتدهور في طرابلس الذي ينعكس سلباً على الميناء، «فمعظم زبائني يأتون من قرى عكار حيث يترتب عليهم المخاطرة والمرور بجوار باب التبانة لدخول طرابلس، ما يجعلهم غير متحمسين للجلوس في المقهى وبالهم مشغول بكيفية الخروج من طرابلس!». ورغم ذلك، ينهمك مروان بالعمل على إنهاء مشروع مقهى جديد في منطقة «رأس الصخر» من المتوقع أن يفتتح خلال أسبوع، حيث يدرس فكرة العودة إلى الأمسيات الطربية والتعاقد مع أحد «العوّادين» لإحياء الأمسيات الرمضانية. يعتب مروان على رئيس البلدية شخصياً والسلطات المعنية التي لا تشجع مثل هذه المشاريع السياحية، فيتكلف إنارة المنطقة حول المقهى الجديد على نفقته الخاصة، إضافة إلى لجوئه لإحدى المؤسسات التي تمنح قروضاً «بتمويل أوروبي دون اهتمام السلطات المحلية!». أما فرقة القدود الحلبية التي اعتاد استقدامها في رمضان، فقد غابت هذا الموسم عن المقهى، لأن «استقدامهم أصبح خسارة ووجع رأس»، فاستبدل هذا النشاط بشاشة كبيرة لمشاهدة «باب الحارة».
لكن زين، صاحب أحد محالّ الألبسة، يعرب عكس الجميع عن امتعاضه من «النق والنعي في الصحف الطرابلسية التي تصور المشهد بأنه مأساوي». زين، بالرغم من اعترافه بضعف حركة الزبائن في الأسبوع الأول من رمضان «نظراً لشغلهم بالإفطارات العائلية»، إلا أنه يعوّل على النصف الثاني من الشهر حين يبدأ التحضير للعيد وشراء حاجاته، ومنها الألبسة. ما يميز سوق الميناء عن سوق طرابلس بنظر زين هو، بالإضافة إلى الفارق في الأسعار، الحياة الليلية وحيوية شارع الميناء، حيث تغلق المحال في طرابلس أبوابها السابعة مساءً بينما تبقى محالّ الميناء للتاسعة في الأيام العادية و«ستظل فاتحة أبوابها إلى ما بعد نصف الليل في آخر أيام رمضان». تفاؤل زين تعكره مسألة واحدة، وهي المسألة التي تعكر جو معظم اللبنانيين، مسألة الكهرباء، إذ يضطر إلى دفع ما يقارب مبلغ 450,000 ليرة شهرياً للمولدات الخاصة.

من «مونو» إلى «مينو»

العلاقة بين شهر رمضان وشارع يعقوب اللبان (الملقب بشارع «مينو» تيمناً بتوأمه شارع مونو في بيروت، وهو الشارع الأكثر حيوية في الميناء لكثرة الحانات التي تجذب الشباب والعائلات معاً، يمكن فهمها على الشكل الآتي: حركة ملحوظة قبل رمضان، تليها فترة هي الأهدأ طوال السنة، لتعود الحيوية إلى ما كانت عليه بعد العيد. «السبب واضح» كما يصفه صاحب إحدى الحانات في الشارع «فهناك من يقلع عن شرب الكحول طوال رمضان». أما ما بات يعرف بالـ RestoPub، فقد «حاول أصحابها إقامة نشاطات تتناسب مع عادات الشهر كالسحور والإفطار، لكن المشروع فشل لاختلاف جو الشارع عن جو رمضان جذرياً» كما يقول. لذا تقتصر الحركة حالياً على الزبائن الدائمين للحانات، وما على أصحابها إلا انتظار التعويض بعد انتهاء الشهر!