التقاعد فترة يحلم بها الكثيرون، ينتظرونها ويتخوفون منها في الوقت نفسه. بلمحة عين ينتقل المرء من الانشغال التام بأمور العمل إلى الفراغ الكلي. لكل متقاعد تجربته وحياته، ومن الخطأ تصنيف تجارب كل المتقاعدين في إطار واحد، ولكن لا يمكن تفادي السؤال التالي: ما هو سبب التغيير الذي نلحظه في سلوك المتقاعدين، ولماذا يكون هذا التغيير مفاجئاً، وسريعاً وغير متوقع

نيفين حمادة
يحاول السيد أحمد (66 عاماً) أن يمسك بزمام الأمور كلها في منزله، وهو منذ تقاعد من وظيفته الرسمية قبل نحو عامين، بات يلازم هذا المنزل. ملّ السهر مع أصدقائه وأقاربه، وتقول ابنته رغدة إنه «أصبح شديد الغضب، سريع العصبية، ويتدخل في كل شاردة وواردة»، يحاول أن يعرف أسرار البنات وأحاديث النسوة وشؤون المنزل والمطبخ، وتفاصيل يوميات الأبناء المتزوجين والعازبين وأصدقائهم، ويريد أن يتدخل في تحديد طريقة عيشهم وعملهم، أحياناً تتملكه نزوات غريبة لا يجد أفراد العائلة لها تفسيراً، لدرجة أنهم أصبحوا يمضون ساعات طويلة خارج المنزل «لتفادي «النق» والمماكحة والحرد المستمر وتوتير الأجواء والأعصاب».
للسيد أحمد لازمة يرددها دائماً «فضيتلكم وقاعدلكم لازم ربيكم عن جديد»، وهو يضع اللوم على الأم «التي فشلت في تربيتهم» في نظره، لأنهم فقط لا يمتثلون لرغبته ولا يحققون مطالبه دائماً.
يتقاضى السيد أحمد راتب التقاعد، وهو بذلك ما زال مسؤولاً عن تأمين حاجيات البيت، لذلك يردد في سره وفي العلن أن «الله رحمه بهذا المعاش من تحكم أولاده»، أما الأبناء فيردون بأن أباهم أصبح متسلطاً ونسي أن أولاده كبروا.
من جهته، يعاني أبو عبدو من الاتكال المادي الكلي على الأبناء، وهذا ما يزعجه جداً، وخاصة أن صحته «على قده». لا يخفي الرجل امتعاضه من أسلوب الحياة الذي يتبعه أولاده، لكنه لا يقوى على التدخل في شؤونهم، ينكفئ في غرفته إلى أنيسه الوحيد التلفزيون، ويقول أفراد عائلته إنه يميل إلى السكون، ولكنه محتج دائماً وحزين، وخاصة بعد وفاة زوجته.
حالة أحمد وأبو عبدو لا تنطبق على غسان السعيد الذي وجد ما يشغل به وقته بعد التقاعد، فحياته المليئة بالأصدقاء وسهراتهم أوحت له بفكرة «جهنمية»، فقد افتتح مقهى صغيراً في بيروت، اقتصر زبائنه في بادئ الأمر على الأصدقاء والجيران، ليتسع في ما بعد لهاربين من منازلهم وباحثين عن التسلية. غسان الذي يستيقظ متأخراً، يخصص فترة بعض الظهر والمساء للمقهى، لا يعرف كل التفاصيل التي تدور في منزله، هو يردد «أنا في صحة جيدة فلمَ أُلازم المنزل»، ويبدو أنه لا يعرف «للتقاعد معنى». أما أفراد عائلته فيعانون من غيابه، ولكنهم سعيدون بنشاطه.
«من غير الطبيعي ألاّ يتدخل المتقاعد في شؤون منزله» يقول المعالج النفسي الدكتور عباس مكي، فبعد التقاعد يختل فجأة ميزان إدارة الوقت وممارسة السلطة، ويتولد لدى المتقاعد شعور بأنه لا فائدة منه ولا أهمية له. لتعويض السلطة التي فقدها يتدخل في أمور المنزل وأمور أفراده.
يؤكد مكي «كل إنسان يتمتع بنوع من السلطة والمسؤولية، ويُحاول كل مرؤوس ألاّ يعدم وسيلة للانتقاص من سلطة المتسلط عليه»، أفراد الأسرة سيتقبلون إذاً سلطة الأب المتقاعد، ولكن لفترة محددة، ثم سينتفضون، ما يسبب التوتر والخلافات داخل العائلة. سيتشدد عندها المتقاعد أكثر في التدخل بأمور أفراد أسرته، وبذلك يتحول وجوده في المنزل إلى عبء كبير، وعندما لا يؤمن المتقاعد المدخول المادي لعائلته يصبح وضعه أصعب. بفضل التقاعد تُتاح لرب الأسرة أوقات فراغ طويلة، يسترجع «الحسابات القديمة» مع أفراد العائلة، ويحاول أن يحاسبهم أو يلومهم عليها، ويعتقد بعض المتقاعدين أنهم يستردون حقوقهم المعنوية أو المادية بالمشاكسات وتوتير جو العائلة.
ويوضح مكي أن التقاعد يطرح مشكلتين: الأولى تكمن في كيفية تنظيم الوقت والطاقة التي يتمتع بها المتقاعد، «لأن سن المتقاعد في بلادنا مبكر، وعدم تفريغ هذه الطاقة يؤدي إلى بلبلة الشعور لكيفية تقدير الذات».
المشكلة الثانية تتولد من الأولى، فيزداد حضور رب العائلة بين أبنائه، وتنخفض إنتاجيته، ما يسبب خللاً في العلاقات الأسرية، ويثير الحساسيات عند المتقاعد، فقد يُصاب لاحقاً بمرض ما، أو يصير أشبه بطفل يحتاج إلى من يهتم به ويحزن لأمور سخيفة، وذلك بفعل فقدان حضن أسرته. بعض المتقاعدين يعتقدون أنهم صاروا في «أواخر حياتهم» فيسعون للاستمتاع بأيامهم، وقد يتحولون إلى علاقات خارج إطار الزواج هي أشبه بحالة من المراهقة، أو يقعون ضحية لأصدقاء جدد يحاولون استغلالهم مادياً، يسهل هذا الاستغلال إذ يشبع رغبة المتقاعد بتحمل المسؤولية والسلطة. وقد تتكوّن لدى المتقاعد خشية من عدم الاهتمام به مادياً إذا لم يكن ميسوراً، والخشية من طمع الأولاد به إذا كان غنياً.
يشير مكي إلى أن المتقاعد الذي كان يتمتع بمركز كبير وسلطة قوية، تتداعى صحته وقدرته الذهنية «عندما يتلاشى كل شيء، وقد يؤدي ذلك إلى الموت المبكر».
لكن الحل دائماً في يد الزوجة، ويقول مكي إنها يجب أن تكون صمام أمان بين الأب والأبناء، وعليها أن تضع، بالاشتراك مع زوجها، نظاماً جديداً للأسرة.


نصائح صحية

يذكّر مكي بأن أهم الدراسات العلمية عن الشيخوخة تنصح المتقاعد بثلاثة أمور:
1ـــ أن يخفض كميات الطعام التي كان يتناولها خلال سنوات العمل، لأن المتقاعد غالباً ما يأكل أكثر وتقل حركته، وذلك يؤثر على صحته.
2ـــ أن يمارس الرياضة أو أي نشاط كالسفر أو الزراعة أو تأسيس عمل خاص به.
3ـــ أن يفكر كثيراً بمشروع معين أو بقراءة كتاب، والتفكير بكل ما يحيط به.
والجدير بالذكر أننا في إطار علاقاتنا الأسرية نظن أن كل تصرف لا يعجبنا هو تصرف خاطئ، ولا نفكر مطلقاً بدوافعه النفسية وأبعاده، لكننا إذا درسناه نجد ما يبرره، وربما ينتابنا شيء من الندم لأن أحكامنا كانت خاطئة، هذا الشعور بالندم قد يتحوّل إلى مرارة تلازمنا لفترة قد تطول