رأفت مرة *ليست المرة الأولى التي تطرح فيها فكرة إرسال قوات عربية للانتشار في قطاع غزة والضفة الغربية، فهذه الفكرة طُرحت في السنوات الست الماضية حوالى أربع مرات، لكنها المرة الأولى التي تأخذ فيها هذه الدعوة هذا الصدى والتفاعل والاهتمام، وذلك لا يرجع إلى الفكرة بحدّ ذاتها، بل إلى الخلفيات التي تحرّك هذا المشروع والنتائج والمضاعفات المترتّبة عليه. بالتحليل الموضوعي، فإن الفكرة لم تطرح رسمياً بعد في أي اجتماع عربي، ولم تُناقَش على مستوى وزراء الخارجية العرب أو على مستوى المندوبين الدائمين في جامعة الدول العربية.
حتى الآن، تبقى الفكرة مشروعاً مصرياً، طُرح في لقاءات أجراها مسؤولون مصريون مع أطراف فلسطينية، ولمس المستمعون لهذه الفكرة، أن الجهات المصرية جادة في طرح الموضوع، وأنها تمارس تسويقه لدى الأطراف المختلفة.
ويبدو أنّ الرؤية المصرية لما جرى ويجري في قطاع غزة، هي المحدد الأساسي لفكرة إرسال قوات عربية للانتشار في غزة والضفة. فالقاهرة منزعجة من فوز حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية، ومستاءة من سقوط حليفها التاريخي في قطاع غزة بعد الحسم العسكري الذي قامت به الحركة الإسلامية هناك في 8 حزيران / يونيو 2007، والعلاقات المتوترة بين «حماس» والقاهرة صارت مكشوفة ولا يمكن إخفاؤها، وخاصة بشأن فتح معبر رفح وإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط ومحددات تصحيح العلاقة بين الرئيس محمود عباس و«حماس».
وتعتقد القاهرة أن إرسال قوات عربية إلى غزة والضفة سيؤدي إلى إعادة تصويب المسار الفلسطيني وإعادته إلى السكة الصحيحة، وذلك بهدف إلغاء النتائج السياسية والشعبية للانتخابات التشريعية التي جرت عام 2006، والتي أثّرت على المسار السياسي الفلسطيني الذي ينتهج سياسة الاعتراف والتفاوض مع إسرائيل. كما تحاول القاهرة إعادة أبو مازن للإمساك بالسلطة في قطاع غزة، وهو مطلب دولي وإسرائيلي في الوقت ذاته.
وتجد القاهرة أن فكرة إرسال قوات عربية إلى غزة والضفة، هي فكرة مناسبة جداً في هذا التوقيت، فنحن على أعتاب انتهاء ولاية رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ومسألة إغلاق معبر رفح أصبحت مسألة معقدة في ظل كسر متطوّعين أوروبيين الحصار عن القطاع، والمفاوضات الفلسطينية ـــ الإسرائيلية بلغت مرحلة حرجة، وانتشار قوات عربية في غزة والضفة قد يعطي جرعة طمأنينة للحكومة الإسرائيلية الحالية تدفعها للقبول بتوقيع اتفاق الإطار النهائي للمفاوضات، بما يضمن إعلان دولة فلسطينية كما وعد الرئيس الأميركي جورج بوش قبيل انتهاء ولايته هذا العام.
لكن انتشار قوات عربية في غزة والضفة، يصطدم بعقبات عدة؛ فحركة «حماس» ترفض الفكرة كما قال الناطق باسمها سامي أبو زهري في تصريحات يوم الأحد 31 / 8 / 2008، معدّداً أسباباً عدة. لكن ما لم يذكره أبو زهري علناً في تصريحاته بغية عدم استفزاز المصرييين، يشير إلى أن «حماس» ترفض أي دور عربي يعيد تحسين موقع أبو مازن على حسابها في ظل عدم وجود تفاهم فلسطيني داخلي.
وما يخيف «حماس» أكثر، هو أن فكرة انتشار قوات عربية في غزة طُرحت بعد صدور مواقف مصرية تشكك بشرعية ما جرى في غزة، كما قال المتحدث باسم الخارجية المصرية حسام زكي، وأن فكرة إرسال قوات عربية تتجاوز الشؤون الفلسطينية الداخلية.
فوزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط قال في تصريح له نُشر في 1/9/2008 إن «وجود قوات عربية على الأرض ـــ في غزة ـــ يمكن أن يساعد على منع الاقتتال (الفلسطيني الداخلي)، ووقف الصدام الإسرائيلي الفلسطيني، ويمكن أن يتيح للفلسطينيين إعادة بناء إمكاناتهم داخل القطاع وبشكل يحقق الوئام».
إذاً، فإن دور القوات العربية سيكون، وفقاً لتصريح أبو الغيط، منع المقاومة من ممارسة عملها العسكري، وخلق منطقة عازلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهذا يعني انتشار قوات حفظ سلام عربية أو قوات ردع عربية، لكن لردع المقاومة لا لردع الاحتلال.
ليس ذلك فقط، فالتحفظ على انتشار قوات عربية في غزة ليس محصوراً بـ«حماس»، إذ هناك أكثر من جهة عربية وفلسطينية ترفض أو سترفض هذه الفكرة. فرئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأردني الدكتور محمد أبو هديب رأى في تصريح له في 1/9/2008 أن هذه الفكرة تعني «المسمار الأخير في نعش القضية الفلسطينية». ويتخوّف الأردنيون من أن يكون هذا المشروع مقدمة لفرض وقائع سياسية قبل إنضاج اتفاق فلسطيني ـــ إسرائيلي، سيكون الأردن أكثر الأطراف المتضررين منه، وهو المهدد دائماً بمسألة «الوطن البديل»، وتحمُّل أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ فلسطيني موجودين على أراضيه.
وهذا ما دعا الملك الأردني عبد الله الثاني إلى إعلان موقف مختصر وواضح من كل ما يجري تحت الطاولة، إذ قال في تصريح لمجلة «الإكسبرس» الفرنسية في 29/8/2008، إن «الحلّ الوحيد المقبول من العرب والمسلمين للقضية الفلسطينية يجب أن يتضمن القدس واللاجئين ودولة للشعب الفلسطيني».
وهناك سبب جوهري لإجهاض مشروع إدخال قوات عربية للانتشار في غزة والضفة، فإسرائيل ترحّب بأي خطوة تجهض المقاومة الفلسطينية وتحفظ أمنها، لكن القراءة الإسرائيلية المختلفة للأمور، والعقدة الإسرائيلية مع الأمن، والبعد القومي، ستدفع الحكومة الإسرائيلية لوضع روزنامة شروط قاسية على القوات المنتشرة، بحيث تفقد هذه القوات هيبتها قبل الدخول، وقد تتحكم إسرائيل بالأسماء والجنسيات والأعداد البشرية والأسلحة، وهو ما يمثّل عامل ضغط على أي دولة عربية تتبنى الانتشار.
وهناك جهات فلسطينية لم تعلن موقفاً إلى الآن من إرسال قوات عربية، لكن هذه القوى ستضطر لإعلان موقف معارض إذا نضج هذا المشروع وازدادت حظوظه، لأن هذه القوى لن تقبل بأي عائق يقف في وجه المقاومة.
يضاف إلى ذلك، أن جهات عربية كثيرة ستقف ضد هذا المشروع ما لم يوازن بين الأطراف الفلسطينية ولا يأتي من ضمن إطار الحوار والقبول الفلسطيني المشترك، وهذا ما يجب أن يعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي: أي حوار وتفاهم فلسطيني برعاية عربية متزنة، وفقاً للمصالح الفلسطينية المنسجمة مع المصالح العربية لا مع المصلحة الصهيونية.
* كاتب وصحافي فلسطيني