كامل جابر
لم تتردد لحظةً عندما دعاها الأمين العام لـ«المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» حبيب صادق لتشارك الهيئات الثقافية الجنوبية تحيّتها إلى الراحل يوسف شاهين، اغرورقت عيناها: «إنّه عهدكم في الوفاء الجنوبي، غداً نلتقي في صيدا والنبطية». لا سعادة توازي استضافة نبيهة لطفي في الجنوب اللبناني، إذ لها في كل مدينة وقرية «أسماء حميمة لا يمكن أن أنساها»... من مقاعد الدراسة في «إنجيلية صيدا الوطنية» «نافذتي الأولى نحو القومية السورية»، وطفولتها في بيت والدها شفيق لطفي ذاك «البيت اليساري المفتوح» على قضايا الديموقراطية والعروبة. انتماؤها اللبناني لا يأتي على حساب انتمائها المصري: «أنا لبنانية حتى العظم، فمنذ تركت وطني عام 1955، لم أنقطع عنه وأتابع أخباره يومياً على التلفزيون، كأنّه فرض يومي. وفي مصر، إحساسي صار واضحاً بأنّني مصرية، بعملي وبيتي وعائلتي وأفلامي».
والدها هو المحامي الصيداوي اليساري المهموم بالقضايا الوطنية والعربية من خلال انتمائه إلى حزب «النداء» القومي، ووالدتها هي نازك البزري «ابنة العائلة العريقة التي لم تلزمنا بأن نكون مع مرشّحها وقريبها الراحل نزيه البزري. فيوم كان في مواجهة الرئيس رياض الصلح كنّا معه، لكن يوم ترشّح معروف سعد، كنّا مع أبي مصطفى. لكنّ الصحبة العائلية لم تمحها الخلافات السياسية. أجمل ما في صيدا حينها أنّها كانت مدينة العائلات التي تعرف بعضها».
حين تستعيد ذكريات الطفولة، تردد باستمرار عبارة «بيت سعيد»، هذه الطفولة التي استمرّت من يوم مولدها في 28 كانون الثاني (يناير) عام 1937 حتى ذلك اليوم الذي تركت فيه البيت «للمرة الأولى» وهي في الخامسة عشرة؛ لأنّ قانون إنهاء المرحلة الثانوية في «المدرسة الإنجيلية الوطنية»، يشترط السكن الداخلي في المدرسة. بعدها، انتقلت إلى الجامعة الأميركية في بيروت، عام 1953. «منذ السنة النهائية في الإنجيلية، خرجت من البيت ولم أعد إليه كسابق عهدي. هذا الخروج سلخني عن بيئتي الاجتماعية والسياسية، وما جرى لي لاحقاً، في حياتي الخاصة والعامة، هو نتيجة خميرة ألفتها منذ بدأ وعيي يتفتّح. لم يكن عندي مشكلة مع قضية حقوق المرأة. في البيت، كان والدي منفتحاً، وكانت أبواب بيتينا المتقابلين في «حي القملي» اللذين نسكنهما مداورةً بين الصيف والشتاء، معقلاً للحوارات الثقافية والسياسية والاجتماعية الصاخبة. بعد زواجي من علي مختار، المتخرّج من كلية الطب في مصر، لم يشعرني يوماً بأنّ لي حقوقاً يجب أن أناضل لأجلها، فهو كان متحرراً أيضاً. لكنني يوم خرجت إلى صعيد مصر وأريافها للبحث والتصوير، تعرفت إلى حقيقة معاناة المرأة المسلمة والعربية، لذلك تركزت أكثر أفلامي التسجيلية على هذا الموضوع».
حوّلت «السياسة» حياة نبيهة لطفي إلى مسار مختلف، عما كانت في وطنها الأم. اختارت دراسة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، لكنّها لم تكملها، إذ طُردت مع 18 طالباً بسبب التظاهر والاعتصام ضد حلف بغداد: «كنّا بدأنا في «العروة الوثقى» (جمعية سياسية طلابية في بيروت تُعدّ نواة حركة القوميين العرب). كنّا صغاراً نسبة إلى مَن سبقنا! بعد طردنا، حاول والدي إعادتي إلى الجامعة، لكنّ عمّي أصرّ على ترك مدرسة الأمريكان. وحده جمال عبد الناصر أنقذ حياتنا الجامعية، إذ دعا الطلاب المطرودين إلى متابعة تحصيلهم الجامعي في القاهرة. وهكذا كان. القاهرة، هذه العاصمة التي شعرتُ انّه يستحيل وصفها بالكلمات عندما رأيتها أول مرة في شباط (فبراير) 1955. ثم دخلت قسم اللغة العربية في الجامعة وتعلّمتها على أيدي ثلة متمكّنة أمثال شوقي ضيف ومحمد أنيس وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور وغيرهم». وفي 1957 حصلت على إجازة الآداب من جامعة القاهرة.
تزوجت في عام 1960، وهي تستعدّ لدراسة الماجستير في الأدب العربي، فحارت بين «الشعر العامي في لبنان» وبين نجيب محفوظ. لكنها بعد شهرين من تاريخه، قصدت المعهد العالي للسينما بناءً على نصيحة صديقها الناقد الراحل سامي خشبة: «هو الذي شجّعني، بعد سنة من فتح المعهد. ونتيجة معالجة فيلم «أبناء وعشاق» عن قصّة دي آتش لورانس، حصدتُ المرتبة الأولى... ما أهّلني للانخراط في حياة المعهد التي كانت من أجمل أيام حياتي». وتتذكّر نبيهة ذلك العصر الذهبي: «درّسَنا في السنة الثالثة مخرجٌ شاب كان قد بدأ يبرز اسمه... يوسف شاهين. وقبله أحمد بدرخان، ومحمد كريم صاحب أول فيلم شاهدتُه في حياتي: «الوردة البيضاء» الذي حضرته مراهقة في سينما «أمبير» في صيدا، وحلمي حليم...».
وتضيف نبيهة لطفي: «نحن من جيل يدين بالكثير إلى يوسف شاهين. كان وقتها يعمل في فيلم «الناصر صلاح الدين» ستة أيام في الأسبوع، وفي اليوم السابع يأتي لتدريسنا، ليس بإلقاء محاضرة أو درس، بل بطرح فكرة قابلة للتداول تساعدنا في التوصل ختاماً إلى خلاصة هي زبد المعرفة والثقافة السينمائية. لقد كان مدرسة بحد ذاتها... مدرسة لن تتكرر بسهولة».
تخرجت نبيهة في عام 1964 من «المعهد العالي للسينما» في القاهرة، وعزّزت دراستها بسنة تخصص في باريس، ثم عادت إلى مصر، لتعمل في السينما الروائية كمساعدة للعديد من المخرجين: سعد عرفة، خليل شوقي، ممدوح شكري، فطين عبد الوهاب بين 1966 و1969. بعدها انتقلت إلى العمل مع شادي عبد السلام، ومن هناك انطلقت إلى السينما التسجيلية.
من فيلمها الأول «ألفيّة القاهرة» عام 1969، ثم «صلاة من وحي مصر العتيقة» بعد سنة، تكررت تجربة نبيهة لطفي حاصدة نحو 30 عملاً تسجيلياً، جلّها في مصر، وصارت من أوائل المخرجات التسجيليّات في العالم العربي. وذات يوم، فكّرت في تصوير عمل عن المرأة الفلسطينية في مخيم «تل الزعتر»، بدلاً من مخيّم عين الحلوة جنوب صيدا. واجهت خلال تصوير الفيلم الكثير من الخيبات التي تفضّل عدم الغوص في تفاصيلها: «قد أذكرها في مذكراتي». بيد أنّ أكثر هذه الخيبات هي اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية التي كانت أولى ثمارها محو «تل الزعتر» عن خارطة مخيّمات الشتات الفلسطيني في لبنان. وأصرّت بعد سنتين على متابعة التصوير والانتقال إلى منطقة الدامور، حتى كان لها حلمها وأبصر النور شريطها «تل الزعتر لأنّ الجذور لن تموت» (1977)؛ لكنّ التجاذبات الفلسطينية منعت لطفي من عرض فيلمها في معظم الدول العربية... «إن لم نقل كلّها».
اليوم، وبعد هذه المسيرة الطويلة الطويلة، أكثر ما يُسعد نبيهة لطفي، هو سرقة حيّز للراحة في صيدا حيث لم يعد لها غير بيوت أشقائها «بيتا العائلة بيعا وهدِّما. أشعر بالغصّة عندما أعبر صيدا، فأكتشف كيف خلعت بيوتها الجميلة واحتلت مكانها أبنية شاهقة، تماماً مثل القاهرة. وما يعزّيني أنّ البلدة القديمة رُمّمت، ولم تضع مثلما ضاع غيرها».
من المهرجانات والندوات الفنية في مختلف الأقطار العربية والأوروبية، إلى مشاركتها في العديد من لجان التحكيم في المهرجانات السينمائية، ما زالت لطفي تملك الوقت والحماسة للمشاركة في تأسيس «جمعية السينمائيات» و«جماعة السينما الجديدة»، وهي عضو ناشط في مجلس إدارة «اتحاد التسجيّليين المصريين» و«اتحاد التسجيليين العرب» و... «اتحاد النقاد».


5 تواريخ

1937
الولادة في مدينة صيدا
الجنوبيّة في لبنان
1964
التخرّج من قسم الإخراج
في «المعهد العالي للسينما في القاهرة». بعد خمس سنوات حقّقت فيلمها الأول: «ألفية القاهرة»
1977
فيلم «تل الزعتر لأن
الجذور لن تموت»
2006
منحها الرئيس اللبناني إميل لحود «وسام الأرز الوطني من رتبة فارس» خلال حفلة تكريم أقامتها بلدية صيدا «تقديراً لإبداعها في مجال السينما التسجيلية»
2008
تعمل حالياً على فيلم عن حياة الراقصة والممثّلة تحيّة كاريوكا