خبر صغير نشرته الجرائد اللبنانية عن اعتصام لأهالي مدينة شكا، احتجاجاً على ما تقوم به شركات تصنيع الإسمنت التي تقيم في المنطقة منذ أكثر من نصف قرن. لا تفهم للوهلة الأولى ما الذي يجبر الناس على البقاء في هذا المكان الأشبه بخيالات «أورويل». «انفجارات تقوم بها الشركة وتخلخل بيوتهم، هنغارات لمواد سامة مكشوفة تتطاير لتعشش في رئاتهم
عمر حبيب
الكلوستروفوبيا، أو الخوف من الأماكن المغلقة، يمكن التعايش معها بالانتباه وبتفادي الغرف المغلقة والمصاعد مثلاً. لكن، ماذا تفعل حين تعيش في حيّ ملاصق، بل ملتصق بإحدى شركات تصنيع الإسمنت في بلدة شكا الشمالية، حيث يحاصرك الصوت، صوت الآلات؛ والمنظر، منظر المداخن العملاقة ودخانها؛ والرائحة، رائحة المواد الكيميائية المشتعلة؛ والطعم، طعم الماء إذا شربت من إبريق نسي أصحابه سدّ كل فتحاته؛ والملمس، إذا اتكأتَ خطأً على حافة شرفة، والتصق براحة يدك بعضٌ من رذاذ «البتروليوم كوك» الهاطل من السماء؟ أوّل ما يلفت انتباهك في هذه الأحياء، هديرٌ يصل إلى ثنايا دماغك ويلازمك لبضع دقائق، حتى بعد أن تغادر.
«آه... الهدير! اعتدنا عليه». تقول جورجيت بوحيدر. وتنصحنا «تعالوا ليلاً كي تسمعوا ما يصحبه من «خبيط» وضجيج جرافات، وخاصة زمور الخطر الذي يطلقونه كلما شعروا بخلل في عمل آلاتهم. عند ذلك، نبقى مذعورين لساعات».
يقع منزل آل بوحيدر على بعد عشرات الأمتار من معمل الترابة. تطلّ عليك عند وصولك إليه منشآت عملاقة، لا بل مخيفة، لجهة البحر. طبقة أرضية يميل بلاط باحتها الخارجية إلى الرمادي الغامق رغم جهود جورجيت الدائمة في تنظيفه، واستخدامها أحدث مواد التنظيف. «تدعس على «البتروليوم كوك» فيلتصق بحذائك وبالبلاط؛ لا ينفع تنظيفه إلا بالفلاش» وهو سائل تنظيف كيميائي يحذر من يستعمله من ملامسته الأيدي العارية.
تصل الجارة نجيبة بطرس بوشمونة. قيل لها إن هناك صحافيين يجرون تحقيقاً عن «الشركات»، فتسرع لتدلي بشهادتها. تقول «محطات البنزين هنا تستخدم حامض الليمون (أسيد سيتريك) لتستطيع تنظيف سيارات أهل المنطقة، أتصدّق؟». أصدق. ففي بلدة شكا إضافة إلى شركتَي تصنيع الإسمنت «هولسيم» و«ترابة السبع»، شركات عدة، منها شركة للترابة البيضاء، معمل لتكرير السكّر، معمل لتصنيع الورق ومعمل الكلس والجفصين.
نجيبة مصابة بداء الربو، تشعر أحياناً بالاختناق، وخصوصاً عندما يهبّ الهواء من الشمال. «ابنتي أيضاً تكاد تغيب عن الوعي أحياناً. تحتاج إلى بخّاخين طبيين لتستطيع التنفس يومياً. يخفّ الأوكسجين هنا فنتنفس أشياء أخرى، وخصوصاً عندما يُفرغون مادة الـ«بتروليوم كوك» من البواخر إلى الأرض أو من «الهنغار» إلى الشاحنات».
و«الهنغار» هو مجرد... هيكل هنغار. أي إنه مساحة غير مسقوفة، مجرد أعمدة وهيكل في الهواء الطلق، تفرغ فيه المادة إياها. فأصبح تلّة ضخمة عندما تتلاعب بها الريح ينتقل الرذاذ السام إلى طعام الناس وشرابهم، والأثاث والجدران... والرئتين. الحل سهل إذاً. لماذا لا يتمّ إنشاء هنغار مقفل؟
تضحك جورجيت، تقول: «قبل أن يتوسع المعمل، كان أصحاب قطعة الأرض التي يخزّنون عليها «البتروكوك» اليوم قد حصلوا على رخصة إنشاء مطعم هناك. اشترت الشركة الأرض، والبلدية ترفض منح رخصة لإنشاء هنغار في المطعم». ويضحك الجميع.
تقول ممرضة رفضت ذكر اسمها لأن والدها يعمل في إحدى الشركتين: «لا إحصاءات دقيقة عن الأمراض الناتجة من التلوث، لكن نسبة المصابين بالربو مرتفعة جداً هنا». تقاطعها جورجيت لتسمّي أربعة من معارفهما مصابين بالسرطان. أربعة من الحيّ.
عندما يولد طفل في الحيّ، تبقى نوافذ المنزل وأبوابه مقفلة 15 يوماً. يدخلون بسرعة ليغلقوا الباب وراءهم قبل أن يتسلل «الكرنكر» (الترابة الفلت) ويلتصق بكل شيء. والكرنكر على كل لسان في شكا، مجازاً وحقيقةً. طفل يحبو أمامنا: رجلاه ويداه، أسْود بأسْود. «أحياناً، نشعر برغبة في التوقف عن الشطف والتنظيف. لشو؟» تقول جورجيت وتضيف ساخرة «لكنّ الإيجابي أنّ أولادنا يكتسبون مناعةً منذ الولادة».
تضيف جورجيت بوحيدر أن «شركة «ترابة السبع» وزّعت العام الماضي شوكولا ووعوداً خلال الأعياد. وعود بأنهم سيهتمون بالناحية الصحية، لكنهم يهتمون حصراً بعدم تقليص الإنتاج. أكلنا الشوكولا وأكلوا الوعود».
عندما بدأ الناس يبنون المنازل، كانت الشركة صغيرة، ولم يكن أحد يعرف المضار الناجمة عن تصنيع الإسمنت. لماذا تعطي الدولة رخصاً لبناء المنازل السكنية؟ لماذا لا تصنّف المنطقة؟ لماذا لا يعوّضون على الناس ليرحلوا ويسكنوا في مكان آخر؟
ألا يعوّضون عليكم بأي طريقة؟ سألتُ. أبداً. وماذا تريدون بالضبط؟ «أن نتنفس من دون خوف. أن ننام من دون خوف. ألا يكون شغلنا الوحيد إزالة البقع السوداء عن كل ما يُرى وما لا يُرى. أن يلعب أطفالنا في الخارج. أن نستطيع الأكل على «السطيحة». ألا نعتاد على الربو والسرطان. أن نعيش «عادي». البعض قد يقبل بتعويض مادي شهري، بسبب الوضع الاقتصادي المزري، لكننا نعلم أن إزالة الغبن شبه مستحيلة، فهم أقوياء جداً. شركات! الدولة معهم، والبلدية، والجميع. يدّعون الإنسانية، فينظّمون مخيماً للأولاد بالتعاون مع المدارس. أو يموّلون مشروعاً بيئياً لمراقبة السلاحف. السلاحف! ونحن نموت ببطء»! «عِيدْها»، تقول جورجيت. عذراً أهل الحيّ الذي يختنق، لن أعيدها... أبداً.


“الاسبست” القاتلأسس هذه الشركة السويسري Smidt Heiny، وبعد اكتشاف خطر هذه المادة وبدء حظرها عالمياً، باعها وغادر لبنان نهائياً. بعدها عمد التجار الى طحن الاترنيت وبيعه للسكان الذين استخدموه في بيوتهم. ولقد سبّب هذا الأمر انتشار رقعة الضرر بدل أن تكون محصورة بمحيط المعمل وبمكبّ الفضلات اللذين لم يُصنّفا حتى الآن.