شكا ــ بسام القنطارالساعة 12 ظهراً. دويّ انفجار عميق يهزّ بيوت 15 ألف مواطن في بلدة شكا الساحلية. ليس هناك انفجار سيارة مفخخة. الانفجار هو «روتين يومي»، تقوم به شركة الترابة اللبنانية «هولسيم» في أعلى جبال البلدة التي لم تعد تشبه الجبال. فالجرافات هناك تعمل ليل نهار لتجميع المواد الأولية المستخدمة في تصنيع الإسمنت، تتكفل بنقلها نحو 1500 شاحنة ثقيلة تعبر سوق شكا يومياً وتفرغ حمولتها في باحة واسعة للتخزين، إضافة إلى صفوف من القاطرات الكبيرة التي تنقل آلاف الأطنان من الإسمنت المصنّع إلى السوق العربية، وخصوصاً إلى العراق.
ما شاء الله، هو مشهد الازدهار، و«شكا معطاء» حسب وصف الناشط البيئي بيار أبي شاهين في رسالته إلى الشركات بمناسبة جمعيتها «العامة لتوزيع الأرباح». ولكن، إن كان هناك من يحصي أرباحه، فهناك من لا يستطيع أن يحصر خسائره المستمرة، من هؤلاء، جيران الشركات في شكا.
ورغم أن «هولسيم» تنفي دائماً أن تكون التفجيرات تسبب أضراراً للمنازل، وأن عندها «آلات متطورة تقيس قوة التفجيرات ونسبة الغبار المتطاير وتلتزم بالمعايير المرخصة لها من السلطات المختصة»، إلا أن ذلك لا يلغي الحقيقة الواضحة للعيان: أن جبل شكا وسهلها وأهلها «منطقة منكوبة».
الساعة 6.00 مساءً. الباخرة الراسية في الميناء التابع لشركة الترابة الوطنية «السبع» بدأت بتفريغ حمولتها من مادة «البتروكوك». وهي فضلات بترولية جافة مصنفة في خانة «الوقود الرديء» وتسبب أضراراً صحية عالية، وخصوصاً إذا كانت نسبة الكبريت الموجودة فيها تتجاوز 6%.
رحلة وصول «البتروكوك» إلى مواقد الشركة، تمر من مرحلة التفريغ في الميناء إلى النقل عبر الشاحنات إلى باحة تخزين قبل أن تنقل مرة أخرى إلى المصنع. هي رحلة تجعل المنطقة المحيطة والآهلة بالسكان، منطقة ملوثة بالغبار الأسود لم تسلم منها حتى... مقبرة لطائفة الروم الأرثوذكس، والتي تحولت إلى بقعة صغيرة محاصرة داخل محيط المصنع. أما الجنازات العابرة إلى هناك، والناتجة بغالبيتها من أمراض سببها ملوثات صناعة الإسمنت ومنها السرطان، فلا تمر إلا بعد إذن من حارس الشركة.
ولباحة تخزين «البتروكوك»، قصة. فالبلدية تصر على نقلها الى مكان آخر على اعتبار أنها غير شرعية. لكنها في الوقت نفسه تتغاضى عن إلزام الشركة بتأمين شروط السلامة العامة الى حين اتخاذ قرار النقل. كذلك فإن وزارتي البيئة والأشغال العامة تتغاضيان عن إهمال الشركة لشروط تخزين «البتروكوك» الآمنة في هذه الباحة، وأهمها «أن يكون مكان التخزين مغلقاً من كل الجوانب ومسقوفاً منعاً لتكوّن تيارات هوائية».
«يوم الزوار» الذي تنظمه الشركات لإطلاع السكان المحليين على طبيعة أعمالها، وبعض الأنشطة التنموية التي تنفذها في البلدة، وعشرات شهادات المقاييس والمواصفات التي تفاخر في إبرازها على منتجاتها، لا يموّه عدم تطبيقها المبدأ العالمي «الملوث يدفع»، والذي يتضمنه القانون الرقم 444 الصادر عام 2002 (حماية
البيئة).
عدم تطبيق هذا المبدأ، لا يعني أن شركات الترابة في شكا «لا تدفع». فبحسب أبي شاهين فإن «الدفع شغّال ولكن بالمفرق بدل أن يكون بالجملة. وهو لا يذهب في الغالب الى المصلحة العامة، بل إلى جيوب المنتفعين من متنفذين وقوى سياسية، وصولاً الى الأفراد».
أبي شاهين واحد من الشهود الأحياء على تاريخية هذا الملف منذ أن كان عضواً في اللجنة السداسية التي شكّلها وزير البيئة أغوب جوخادريان عام 1991. كان شاهين ممثل الأهالي، وأيامها أنجزت مطالب عدّة، أهمها تركيب فيلتر للمداخن، ورفعها الأخيرة إلى مستوى 120 متراً بدلاً من 40 متراً.
«في ذلك الوقت وضعنا روزنامة عمل، بعضها نفذ والباقي لا يزال ينتظر حتى اليوم. أقمنا اعتصاماً منذ أسبوع وحركنا الملف من جديد، ولن نسكت حتى يتم وضع روزنامة عمل جديدة، وإعلان الشركات رسمياً عن التزامها بتنفيذها كاملة».
في روزنامة المطالب الجديدة التي يعمل أبي شاهين على تحقيقها: وقف التفجير في جبال شكا والاكتفاء بأعمال الحفر التقليدية التي تتطلب مزيداً من الوقت والكلفة، لكنها لا تسبب تفسخاً في البيوت، وزيادة احتمالات تلوث الينابيع الجوفية. أما تغطية باحة تخزين «البتروكوك» فواحدة من بديهيات شروط التخزين التي ينصّ عليها القرار رقم ISIC- 2651 والصادر عن المديرية العامة للتنظيم المدني. وعدم تطبيقه يستدعي تحركاً فورياً من قبل وزارة البيئة اللبنانية التي من واجبها أن تراقب وتحاسب كل مخالفات المصانع.
لكن المطلب الأهم الذي طرحته «اللجنة السداسية» عام 1991 ولم يؤخذ به، قضى بإنشاء صندوق خاص لإنماء شكا، تموّله الشركات المصنعة، بمبلغ مقطوع قدره دولار أميركي واحد عن كل طن ترابة. ومن شأن هذا الصندوق أن يعوّض على الأهالي الذين مرضوا أو فقدوا أبناءهم بسبب المرض الناجم عن التلوث، وعلى التجار الذين فقدوا جزءاً من تجارتهم جراء مرور الشاحنات داخل السوق التجارية، إضافة إلى تنفيذ مشاريع إنمائية طويلة المدى، كتشجير الجبال فور حفرها، وإنشاء بنية تحتية للصرف الصحي وتمديد مياه الشفة إلى البلدة التي ما زالت تشرب من آبار حفرتها، مياه معظمها ملوث بدرجة كبيرة.
هذا عدا عن الكهرباء التي يتم توليدها بشكل وفير في مصانع الشركة، لا يستفيد منها إلا بعض المحظيين من الأهالي، الذين رفضوا التحدث إلى «الأخبار" رغم محاولتنا المتكررة ميدانياً وعبر الهاتف الوقوف على آرائهم مما يجري.