تتلاشى شيئاً فشيئاً الحدود الفاصلة بين العالم الواقعي والحقيقة الافتراضية، ويعد علماء يابانيون بالذهاب بالعوالم الافتراضية نحو «الكمال» أو الحالة المثالية بالمعنى التقني. سنلمس هذه العوالم، لن نحتاج بعد الآن إلى وسيط مادي لنشعر بأن أيدينا تمسك بأغراض أو صور ثلاثية الأبعاد على شاشة أمامنا

بيسان طي
الحقيقة الافتراضية تتسلل إلى يومياتنا لتتخذ مكانة مهمة من ممارساتنا، إنها جزء من الميديا، من الإعلانات، والأهم أنها باتت تسيطر على حيّز اللهو الكبير في حيواتنا الجديدة. بداية، نلفت إلى التعريف العلمي لعبارة «الحقيقة الافتراضية» بأنها «تكنولوجيا تسمح بمحاكاة (توهمية) تفاعلية بقياس الوقت الحقيقي للواقع المعيش» (أي غير الافتراضي)، ولمزيد من الدقة يُمكن الإضافة بأنها «تقنية تواصل بين الإنسان والآلة، تسمح بغمر الشخصية في عالم حواسي من التركيبات المحسوبة على قياس الوقت الواقعي»، وتُصنّع الحقيقة الافتراضية بواسطة صور مركّبة، وفي بيئة افتراضية ثلاثية الأبعاد، ما يسمح لمستخدم بالتوهم بأنه ينغمس في عالم حقيقي، ولهذه الغاية تُستخدم عادة أدوات متنوعة تسمح بنقل هذا الإحساس كالخوذة.
في الآونة الأخيرة انتشر نوع من القفازات التي توهم مستخدمها بأنه يمسك بالأشياء الموجودة على الشاشة. جُهّزت هذه القفازات بلواقط تساعد على فك رموز حركات اليد، وفي الوقت نفسه تطبع عليها إحساسات محسوبة (أو مبرمجة) من الحاسوب، وتحصل العمليات الحسابية وفقاً لقياسات الزمن الواقعي بالطبع.
تسمح القفازات (أو الأدوات الأخرى) بنقل الإحساس اللمسي والإيهام به من خلال الارتكاز على «رد فعل رجعي» (retroaction) الخاص بالإحساس الجلدي، أي الذي يحصل بواسطة جلد الجسم الإنساني.
نجحت القفازات، ولكن الوهم الذي كانت تُشعر مستخدمها به كان إيهاماً منقوصاً، وذلك بسبب حجمها، إذ يزن القفاز نحو كيلوغرام، فنقلت الشركة الكندية «Haptic Technologies» تقنيات الإحساس إلى شاشة لمسية مبرمجة بشكل يسمح بالإحساس بالأشياء، الثلاثية الأبعاد، وهي تتحرك.
عُدّت التقنية الكندية تطوراً مهماً في عالم الحقيقة الافتراضية، لكن الثورة الحقيقية أتت أخيراً من اليابان، ولنقل إن هذ الثورة في طور التحضير. فقد طوّر تاكايولي إيواموتو وزملاؤه من جامعة طوكيو تقنية تسمح بالاستغناء عن الوسيط المادي بين الشاشة ـــ الآلة والمستخدم.
استفاد إيواموتو من خصائص الموجات الصوتية، وتحديداً ما فوق الصوت، ولفت إلى أنه مع استخدام مجموعة من المرسلات فوق الصوتية التي تُرسل بشكل متزامن، فإنه من الممكن تركيز الموجة الصوتية في نقطة معينة، وإذا اقتربت اليد من هذه النقطة غير المرئية يمكن الإحساس بها.
النموذج الأول الذي يقترحه إيواموتو وزملاؤه يتضمن 85 خلية بث فوق الصوتية، ولكن هذا النموذج لا يعمل حالياً إلاّ عمودياً، نقطة تلاقي الموجات التي تبثها الخلايا ترتفع عن آلة الإرسال بنحو سنتيمتر، ويمكن لأكثر من شخص الإحساس بها في آن واحد.
الآلة اليابانية اطّلع عليها علماء من مختلف أنحاء العالم، إذ عُرضت أخيراً في معرض «Siggraph 2008» في لوس أنجليس، وقد رُبطت آلة بث الموجات الصوتية بكاميرا تفك رموز مواقع اليد أو حركاتها، وتتحكم أيضاً بتنقلات النقطة التي يشعر بها مُختبِر الآلة، بشكل يجعله يتوهم بأنه يحرّك يده على مساحة مسطحة أو على زاوية أو ضلع، وكانت هذه الموجات توهم مستخدمها بأنه يلامس شيئاً يبلغ وزنه نحو عشرة غرامات.
حتى يومنا هذا، ترتكز استخدامات أو توهمات الحقيقة الافتراضية بمعظمها على عالم ألعاب الفيديو، ولكن المشتغلين في الحقل التكنولوجي يعملون على تطويرها لتطال معظم جوانب حياتنا.
بعضهم يسأل مثلاً: لماذا لا نتخيل طبيباً متخصصاً في جراحة الأعصاب وهو يجري عملية بالغة الدقة، يجلس وراء مكتبه في بكين، يعيد خلال العملية ربط شرايين أو أوردة عصبية انقطعت دون أن يلمس مريضه، عملية تجري عن بعد من خلال تحكم الطبيب بصورة مكبّرة عن العصب... فيما المريض ممدد على سرير العمليات في مستشفى في دكار.



السيناريوهات التي يطرحها الباحثون اليابانيون، ومشتغلون آخرون في شؤون التطوير التكنولوجي، تفتح الباب أمام تخيلات كثيرة، يقولون مثلاً إننا قد «نلمس» نقطة بعيدة، في المريخ مثلاً، نقطة تُراقب من خلال كاميرات دقيقة (stéréoscopique). ونسمع مصنّعي ألعاب الفيديو يسألون: هل «holodeck» الغالي على قلوب محبي لعبة «Star Trek» سيتحول إلى حقيقة «ملموسة»؟
بعد نجاح التجربة اليابانية، سنشهد بالتأكيد تطويراً متعدداً يجعل الحقيقة الافتراضية جزءاً لا يتجزأ من واقعنا المادي المعيش، سيزداد تداخل العالمين الواقعي والافتراضي بشكل نعجز حتى الآن عن تخيله... عندها سيأتي دور علماء النفس والباحثين في علم الاجتماع لدراسة الإنسان الجديد، هذا الذي سيعيش في إطار تسقط فيه الحواجز أو الحدود الفاصلة بين الواقع والوهم، والأهم أننا سنشهد بالتأكيد تعريفاً جديداً لماهية اللمس.