strong>عمر نشّابة *عُهِدَت وزارة الداخلية والبلديات أخيراً إلى محامٍ وأستاذ جامعي ناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان. ومنذ اليوم الأول لتولّيه مهمّاته، أكد الوزير الجديد زياد بارود أن اهتمامه لا ينحصر بتنظيم الانتخابات كما أشيع، بل إنه سيتحمل المسؤولية القانونية الكاملة التي تترتّب على مهمّات وزير الداخلية والبلديات. وبما أن قوى الأمن الداخلي والأمن العام ومصلحة الشؤون السياسية ودوائر النفوس وغيرها من المؤسّسات المعنية في خدمة أمن المواطنين، وتنظيم أوضاعهم القانونية، تقع جميعها تحت مظلة وزارة الداخلية، يترتب على الوزير بارود الإشراف على تأمين حقوق الناس في القضايا المتعلقة بمهمّات وواجبات الإدارات والمؤسسات الخاضعة لسلطته. وهو على يقين من ذلك، إذ عبّر عن حرصه على تأمين حقوق الناس وبدأ باتخاذ الخطوات التطبيقية بهذا الخصوص.
وبعد مراجعة المعايير الدولية لحقوق الإنسان والمعاهدات التي التزم لبنان احترامها، وبعد دراسة أوضاع حقوق الإنسان في لبنان والمشاكل التي تعترض احترامها بالكامل، يمكن تسجيل 4 تحدّيات أساسيّة سيواجهها بارود وفريق عمله في تأمين هذه الحقوق عبر وزارته:
1 ــ كشف مصير المفقودين والمخطوفين؛ لم تكلّف الدولة نفسها عناء إحصاء عدد المفقودين والمخطوفين منذ ما قبل اتفاق الطائف. ذووهم وبعض الهيئات الإنسانية يقولون إن عددهم الإجمالي يفوق 17 ألفاً. وكانت حكومة الرئيس سليم الحص الأخيرة قد أنشأت لجنة تحقيق ذكر تقريرها وجود مقابر جماعية في مختلف المحافظات وأقرّ بأنّه لا أحياء بين المفقودين، وبالتالي سمح التقرير لذويهم بالحصول على شهادة وفاة.
التقرير الذي تبعه لاحقاً تقرير مماثل صدر عن لجنة أخرى لم يكن مقنعاً، بحيث لم يقدم تفسيرات عن سبب عدم نبش المقابر الجماعية للبحث عن الجثث وتسليمها للعائلات لدفنها. أما أهالي المفقودين، فلم يتمكّنوا من التسليم بوفاة أقربائهم من دون ظهور إثباتات مقنعة على مفارقتهم الحياة.
إنّ كشف مصير المفقودين مهمةٌ بالغة الصعوبة والتعقيد، وقد يكون من المستحيل إتمامها خلال فترة زمنية قصيرة، إضافةً إلى أنّ عملية البحث عنهم تتطلّب إمكانات تقنية وقدرات بشرية ليست متوافرة لدى الأجهزة التي تخضع لسلطة وزير الداخلية.
غير أن انطلاق العمل الجدي في هذه القضية يبدأ بإحصاء المفقودين وجمع الملفات المفصّلة عنهم، إضافةً إلى أخذ عيّنات للحمض النووي من ذويهم البيولوجيّين وحفظ جميع المعلومات إلكترونياً. أمّا في ما يتعلق بالمقابر الجماعية، فيُفترض تحديد أماكنها وإغلاقها وحمايتها، بحيث تعدّ مسارح لجرائم تمهيداً لنبشها منهجياً من جانب اختصاصيّين.
إنّ التمكّن من كشف مصير المفقودين يستدعي تعاون قيادات وجماعات حزبية وسياسية وعسكرية شاركت في الأعمال الصدامية العنيفة على أنواعها، كما أنّ إدلاء هؤلاء بمعلومات مفصلة عن الأشخاص والوقائع والمكان والزمان يصطدم بحدود الذاكرة والمعرفة والمشاعر، وبموانع السياسة والإرادة والتهديد.
غير أنّه لا يمكن على الإطلاق إغفال وضع قضية آلاف المواطنين اللبنانيين المفقودين في خانة أولوية الأولويات، إذا أردنا العمل وفق معايير حقوق الإنسان.
2- التحقيقات في حوادث وفاة الموقوفين أو المطاردين؛ يُفترض فتح أو استكمال تحقيقات الضابطة العدلية من جهة، والتفتيش الإداري من جهة أخرى في حوادث وفاة موقوفين في نظارات الشرطة والسجون وأثناء مطاردة مشتبه بهم أو مداهمتهم والإخبارات المتعلقة بها.
ويتطلّب ذلك وجود محقّقين يتميزون بالنزاهة والاستقلالية. ويستدعي التحقيق الإداري تطوير وتجهيز المفتشية العامة لقوى الأمن، والسعي لفصل المفتش العام عن مجلس قيادة قوى الأمن لضمان استقلالية موقعه خلال مهمّات التفتيش.
كما تتطلب مهمّات التحقيقات متابعة حثيثة ومراقبة دقيقة لكل wمن يشتبه به والحفاظ على السرية واعتبار أنّ المراجع الروحية أو العسكرية أو السياسية، حتى لو بلغت رأس الدولة، لا تعلو سلطة القانون مهما اقتضت الظروف.
ومنذ مطلع 2008، سجّلت التقارير الأمنية وفاة أكثر من 11 سجيناً ولم تكن التحقيقات معمّقة. ففي أغلب الحالات، حُسم سبب الوفاة بانفجار مفاجئ في الدماغ أو توقف مباغت لدقات القلب بينما يفترض التعمق في التحقيق الطبي ودراسة السجلات الصحية السابقة للوفاة وتحديد المسبب المباشر في حدوثها.
3 ــ مكافحة التعذيب الجسدي والنفسي؛ ما زال معظم ضباط التحقيق ورتبائه يرون أنّ للعنف والترهيب خلال التحقيق، قيمة عملية فعّالة. فالمنهجية المتخلفة السائدة تتمحور حول كسر المشتبه به المستوجب للحصول على اعتراف. وتستخدم في المخافر أساليب متعددة للتعذيب الجسدي والنفسي، إذ إنّ «الفلق» و«البالانكو» و«الفروج»، ما هي إلّا صنف واحد من الجرائم التي يرتكبها المحقّقون في المخافر والمراكز الأمنية بحق المستجوبين.
فتعذيب الموقوفين يأتي أيضاً عبر ظروف التوقيف وحالة النظارات اللا إنسانية من ناحية غياب التهوية والنور الطبيعي وأدنى متطلبات النظافة. إضافةً إلى ذلك، يسجّل تجاوز سلطات التحقيق لقانون أصول المحاكمات الجزائية لناحية الحق بوكيل دفاع وبحضوره استجواب موكله.
أمّا في ما يخص السجون، فلا شك أنّها لا تتناسب مع أدنى معايير حقوق الإنسان، لجهة أمن السجناء والحراس وسلامتهم والخدمات الطبية والعلاجية الضرورية. مشكلة الاكتظاظ تولّد أزمات عديدة، منها عدم توزيع السجناء بالشكل المناسب وحشرهم في أماكن ضيقة، ما يزيد من احتمالات الاحتكاك غير القانوني بينهم ويصعب مراقبتهم وتوفير الخدمات الأساسية.
لكن ليست مشكلة الاكتظاظ وحدها ما يُسَجَّل لناحية تجاوز أبسط حقوق الناس في السجون اللبنانية التي تخضع لسلطة وزير الداخلية، بل إنّ غياب التخصّصية وكفاءة عناصر ورتباء وضباط قوى الأمن الداخلي المهنية في إدارة المؤسسات العقابية، يمثّل حجر زاوية المشكلة. ولا يكمن الحلّ في نقل الصلاحية من وزارة الداخلية إلى وزارة العدل، بقدر ما هو إنشاء مؤسسة متخصّصة بإدارة السجون.
4 ــ مكافحة التمييز والفساد والمعاملة المهينة؛ يتصرّف عناصر الأمن الرسميون في كثير من الحالات كسلطة شبه مطلقة لا يحددها قانون. ويخاطب شرطيّون المواطنين بطريقة لا تليق بالمؤسسة الرسمية التي يعملون لمصالحتها. وبدل أن يكون الشرطي أو المفتّش في خدمة المواطن، يصبح المواطن في خدمة الشرطي وهذا أمر يتنافى مع مهمّات قوى الأمن الداخلي والأمن العام وواجباتهما.
فعلى جميع العناصر والرتباء والمفتشين والضباط، أن يتذكّروا أن رواتبهم من خزينة الدولة أي من المال العام، وأن لا سلطة لهم غير المنصوص عنها في القانون.
ويميز بعض الشرطيين والمفتشين والضباط اثناء الخدمة بين المواطنين في حالات عديدة بحسب المذهب والطائفة والمنطقة والولاء السياسي والروابط العائلية بأشخاص نافذين أو من أصحاب الثروات.
دوريات الشرطة والأمن تتدخل في أمور لا علاقة لها بها. ويتجاوز الشرطيون والعسكريون قوانين السير ويوظّف المحققون مشاعرهم خلال تنفيذ مهمّاتهم بحيث يعبّرون عن غضبهم ويتعاملون مع جميع المستجوبين، بما فيهم الشهود بطريقة ينقصها الاحترام.
وكثيراً ما يشتم المحقق الموقوفين، وخصوصاً إذا جرى القبض عليهم خلال قيامهم بجرم مشهود. ويرى العديد من ضباط قوى الأمن أن لديهم صلاحية إهانة مرتكبي الجرائم المحكومين قضائياً أو حتى الموقوفين المتهمين أو المشتبه بهم.
في المقابل، يعامل بعض المواطنين عناصر وضباط الشرطة والأمن العام بطريقة غير مقبولة أخلاقياً. فبعض المواطنين لديهم أقارب أو أصدقاء أمنيّون برتب عالية وبعضهم الآخر تربطه بقادة سياسيين، علاقات وثيقة ما يجعلهم يتصرّفون بفوقية وقلّة احترام. ولا تجري محاسبة الجهة التي تتدخّل في عمل الشرطة وفي كثير من الحالات يعاقَب الشرطي لقيامه بعمله القانوني لأنه اتخذ إجراءً قانونياً بحقّ شخص «نافذ».
أخيراً لا بدّ من الإشارة الى أن خضوع المسؤولين المؤتمنين على خدمة المواطنين للمساءلة والمحاسبة، لا مفرّ منه إذا أردنا الإصلاح والنمو. لكن استمرار البعض في منع الشفافية الإدارية وإطلاع المواطنين على شؤون الإدارات الرسمية، لا يقتصر على تعطيل الإصلاح، بل يعطّل النظام الديموقراطي ويفتح المجال واسعاً أمام انتهاك حقوق الإنسان.
* من أسرة الأخبار