في جميع قوانين العمل، ثمّة قاعدة تقول «لا عمل من دون أجر»... إلّا في لبنان. حيث إن فئة «الحمّالين» العاملين في غالبيّة المؤسّسات التجارية تدفع لكي يسمح لها بالعمل بدلاً من تقاضي أجر، إضافة إلى ساعات عمل لا سقف لها
راجانا حمية
هي المرّة الثالثة التي يلتقيان فيها معاً في الباص. جلس الشاب العشريني، كعادته، في المقعد المواجه للفتاة، يرمقها بنظراته، التي لم تكن تجد مفرّاً منها سوى الاختباء خلف صفحات كتابٍ تستلّه على عجل من حقيبتها. يشعر الشاب، واسمه محمّد عودة، بشيءٍ ما نحو مرافقته في الباص، لكنّه لا يجرؤ على التحدّث إليها. يخاف من رفضها له، كما فعلت إحداهنّ في فترة سابقة، عندما فوجئت بوظيفته: مجرد حمّال في إحدى المؤسّسات التجاريّة الكبرى.
أُغرم عودة بفتاة الباص. ولكن خجله من عمله يدفعه إلى تنحية شعوره بالحبّ والاستقرار جانباً، والاكتفاء بنظرات الإعجاب.
كان يمكن عودة أن يعيش على وقع حياته السابقة: أن يستيقظ السادسة صباحاً، يهيّئ نفسه لركوب باص السابعة إلى مكان عمله، أن يحبّ ويمرح ويعمل ويعود عند العاشرة ليلاً إلى الفراش، وهكذا دواليك. ففي حينها، كان يبدو عمله كحمّال مناسباً مقارنة بمستواه التعليمي، حيث «كانت أقصى إجازاتي التعليميّة الصفّ الثاني من المرحلة المتوسّطة»، كما يقول. غير أنّ حادثة الحبّ الفاشلة، غيّرت كلّ شيء. قادته إلى الندم على عدم إتمامه دراسته، وإلى التفكير في تفاصيل وظيفة يمارسها منذ أربع سنوات بدون راتب شرعي، وبدوام عمل «لا وجود له في سجّلات وزارة العمل»، كما يقول «رئيس مصلحة القوى العاملة» في وزارة العمل فوزي الحاج حسن، الذي فوجئ بـ«نوعيّة جديدة من العاملين بغير علم الوزارة». ففي الوقت الذي «ينتظر فيه الاتّحاد شكوى واحدة من المستخدمين المغبونين لإطلاق لجنة تُعنى بأوضاعهم»، بحسب ما يؤكّد عضو هيئة مكتب الاتّحاد بطرس سعادة، لا يبدو أنّ وزارة العمل، التي مضى زمن طويل على ما يبدو على إرسالها مفتشيها إلى المؤسسات، ستحرّك ساكناً قبل أن «يتقدّم أحد المستخدمين بشكوى» كما تقول منال حجازي، رئيسة دائرة التحقيق، التي تنفي علمها بأي شكوى لتسوية أوضاعهم «وإن تقدّموا فعلى الأرجح في غير محافظة بيروت».
بين تقديم الشكوى التي يتمنى الحمّالون أن تواتيهم الجرأة على تقديمها، ولا يفعلون خوفاً من خسارتهم لوظيفتهم الهشة، وعدم تقديمها كما تصرّح وزارة العمل، تُهضم حقوق مئات من العاملين في الظلّ، بدوام يتخطّى عدد الساعات التي يقرّها قانون العمل وبمدخول يقوم فقط على ما يعطيه زبون المحل الذي يستثقل أكياسه الكثيرة فيسمح لهم بحملها، وقد لا يعطيهم أحياناً أي شيء، ظناً منه أنهم موظفون في المحل. لكن ما لا يعرفه الزبون هو أن هؤلاء يدفعون بدل أن ياخذوا لصاحب المؤسسة الذي «يجتزئ من مدخولهم يوميّاً 5 آلاف ليرة أجرة السماح لهم بالعمل».
لا يبدو أنّ أحداً يحسب حساباً للحمّالين. لا أحد، ولو صادفهم في اليوم عشرات المرّات. قد لا تتنبّه لذلك الشاب الذي ينتظر أن تدعوه ليحمل أغراضك للحصول على «الألف» التي يمكن أن تمنحه أو لا تمنحه إيّاها.
لكن، رغم كلّ المعاناة، ثمّة ما يدفع الحمّالين للقبول بنمط عيشهم: التمسّك بما أُتيح لهم من «وظيفة» في ظلّ الأوضاع المتردّية. فهم على الأقل، تخطّوا بذلك عقدة اللاستقرار.
من بين هؤلاء عبّاس مروّة. يؤسّس مروة لحياته مع شريكته حنان ممّا يجنيه من عمله كحمّال. هذا الشاب الذي ينهكه التعب بسبب دواميه العادي والإضافي (أكثر من 16 ساعة متواصلة) لا يُخيفه شيء باستثناء عطب قد يفاجئه فيمنعه من العمل. ما عدا ذلك، لا يجد مروّة أيّ عائق لممارسة هذه المهنة. يرتاح لما يجنيه منها، إذ يستطيع «ادّخار المال من الراتب لدفع بدل إيجار البيت وتأثيثه». لا بل إنه فخور بما يجني منه «ما يقارب ألف دولار شهريّاً، وهو ما لا نستطيع تحصيله في وظيفة الدولة»! أمّا أمور الضمان والاستشفاء «فيمكن العمل لساعاتٍ إضافيّة، تؤمن حوالى مئة دولار، قد نصرفها على المستشفى لو احتجناها». يبدو أنّ مروّة ليس وحيداً في رضاه عن عمله كحمّال، إذ يفرح أيمن شعبان بعمله «الحر». فهو ليس مجبراً على «الخضوع لسلطة مسؤول، ونستطيع أن نعمل ساعات إضافية ونزيد المردود». وجه شعبان مبتسم باطمئنان، فهو طلّع «اليوم يوميّتي وزيادة». يمدّ يده إلى جيبه ويخرج ما فيها من نقود مبعثرة بين أوراقه الشخصيّة، ويبدأ بالعدّ «ألف، اثنين، خمسة...ستين ألف». يطمئنّ ثم يستأذن من الرفاق.
يرحل شعبان مبتسماً، تاركاً مكانه لشبابٍ آخرين لمّا يجمعوا بعد بدل أجرة صاحب المؤسّسة. ينتظرون «زبون تقّالة» أو «توصيلة» إلى أحد المنازل. لكن، آخر اليوم، لا أحد يترك مكانه من دون أن يكون قد «ملأ الجيب بحوالى 20 أو 30 ألف بالميتة»، كما يلفت رضا هاشم. أمّا «اليوميّة» التي يمكن أن يجنيها هاشم، فهي «حسب الزبون، يعني ببعض الأوقات بتوصل إلى 50 ألفاً أو 50 دولاراً حتّى». ثمّ يردف قائلاً: «الحمد الله عم نطلّع بين 800 و1000 دولار بالشهر والشغلة معاشاتها منيحة، ونفسيّة مرتاحة، بالمختصر بتعيش لراسك».
عند الطرف الآخر من الصندوق الذي يشغله رضا، يقف يوسف علي أو «البوس» (الرئيس) كما يلقبّه الرفاق. يوسف هو الوحيد الذي يملك امتيازاً من المؤسّسة بسبب أقدميّته فيها. ولكن لا يذهبنّ أحدكم بعيداً: لم يصرح صاحب المؤسسة عن يوسف للضمان، لا سمح الله: هو فقط أعفاه من دفع الأجرة اليوميّة له. وما عدا ذلك، لا يختلف يوسف عن زملائه. فالكلّ يتزاحم على الدور المفترض وعلى الزبون الذي قد يختار بنفسه الحمّال.
غير أنّ الرضى الذي يبديه الحمّالون عن الوظيفة، والذي يقوم أكثر ما يقوم على جهلهم لحقوقهم من جهة، وقناعتهم ببحبوحة ولو عابرة، لا يخلو من خوف فقدان الوظيفة إذا ما اشتكى الزبون من أحدهم. لذلك، يحفظ الحمّالون ويعلّمون «القادمين الجدد» مقولتهم التي تخوّلهم المحافظة على عملهم «إذا سألك الزبون كيف الشغل؟ بتقول الحمد لله ولو كنت مشحوط».
ولكن ماذا عن النقابات؟ ألا تتحرك إلا بشكوى؟ يشير رئيس الاتّحاد العمّالي العام غسّان غصن إلى «أنّ ما يحصل مع الحمّالين هو أمر مخالف للقانون، فالإكراميّات التي يعدّها صاحب المؤسّسة راتباً، هي بحسب القانون من حقّه أصلاً، فضلاً عن ذلك تُضاف إلى الراتب، وهو بالتالي عمل سخرة لا علاقة له بكرامات العمّال». أمّا عضو الاتّحاد بطرس سعادة، فيرى أنّ ما يحصل مع الحمّالين «مخالفة لاتّفاقيات العمل الدوليّة، ولكن لا عتب على الدولة التي لا تملك وزارة العمل فيها مفتّشين لرصد تلك المخالفات». ويصف سعادة ما يقوم به أصحاب المؤسّسات بكثير من التهذيب فيقول إنه «خبثنة»، إذ «يعمدون إلى الاحتيال أو الالتفاف على القانون من خلال تبنّي مقولة أنّهم يضمّنون الحمّالين وظيفة، وفي تلك الحالة يتنصّل من الراتب ويقبض في الوقت نفسه».
لكن هذه الخبثنة كان لها اسم أقل تهذيباً في تاريخ استغلال العمال في العالم. شيء يشبه السخرة أو استعباد الناس، ولو ارتسمت على وجوههم سعادة قبض «الكاش».


ماذا يقول قانون العمل؟

المادة 19
على رب العمل بعد انتهاء الشهرين الأوّلين ــ من تدريب المتقدّمين إلى العمل في المؤسسة ــ اللذين يعتبران بمثابة فترة التجربة، أن يدفع إلى المتدرّب أجراً يساوي حدّه الأدنى: في المرحلة الأولى ثلث الأجر العادي للأجير، وفي المرحلة الثانية نصف الأجر، وفي المرحلة الثالثة ثلثي الأجر.
المادة 20
يُكلّف مفتشو العمل الإشراف على تنفيذ هذا المرسوم والسهر على تطبيق أحكام هذا القانون وتحدّد بمرسوم صلاحيات هؤلاء الموظفين المنتسبين إلى وزارة العمل.
أمّا في ما يتعلّق بساعات العمل، فيشير القانون في المادة 31 إلى:
أنّ الحد الأعلى للعمل في الأسبوع هو 48 ساعة في النقابات الصناعية والتجاريّة والمهن الحرّة ما خلا النقابات الزراعية.
المادة 33
تجوز مخالفة أحكام المادة 31 في الأحوال الاضطرارية وذلك بجعل ساعات العمل اثنتي عشرة ساعة بشرط: أن تحاط وزارة العمل علماً خلال الأربع والعشرين ساعة بالأمر الحاصل وبالوقت اللازم لإتمام العمل. وأن يكون أجر الساعات الإضافية التي اشتغل فيها الأجير 50% زيادة عن أجر الساعات العادية.