موسى العزب *في مقال نشره في صحيفة «الغد»، وفي إطار محاولة تحديد هوية وموقع حركته في الإطار الوطني الأردني، يستعرض الأمين العام لليسار الاجتماعي، صورة حركته في نظر أطياف المعارضة الأردنية، اليسارية والقومية، وخلص إلى استنتاج مسطّح، مفاده أن كل هذه القوى «تتهم» حركته بأنها تمثّل «الذراع التقدمية للدوائر الأمنية»، ولم يقل لنا كيف توصّل إلى استنتاجه هذا! ولكنه يتابع في المجال نفسه، بأن الموقف الرسمي الأردني «يدّعي أن الحركة ترتبط بصلات مشبوهة بإيران وسوريا وحزب الله وحماس!»، وأعتقد أنه لم يسمع أحد في الأردن ــ حتى الآن ــ بمثل هذا الهذيان السياسي، ومحاولة خلط الأوراق، وتقمّص دور الضحية.
قد يكون من الطبيعي أن يتساءل الناس عن حقيقة هذا الحركة، التي أصبحت منذ «الدعسة الأولى»، القوة المحتكرة «للمعارضة الوطنية»، هذا رغم غياب أيّ وثيقة سياسية أو برنامج مهمّات أو رؤية متكاملة صدرت باسم هذه المجموعة، باستثناء عريضة يجري توقيعها حالياً، أو مقالات الافتراء لمنظّر الحركة «النشيط»، أو المدوّنات التي يكتبها أمينها العام. ولكن من خلال استعراض ما ينشر لهذه الحركة، فإننا نراها «ترفض النظريات القومية العربية»، وكذلك ترى أن «اشتداد الصراع الاجتماعي ــ الوطني في الأردن يرتبط بالمزيد من الانقسام بين أردنيين يتجهون يساراً، وبين فلسطينيين يتّجهون يميناً»، طبعاً دون أن يقول لنا لماذا وكيف استخلص هذا الاستنتاج المهمّ؟.
الأمين العام للحركة وجد ضالته، وذلك بضرورة «توحيد صفوف المناضلين الأردنيين والفلسطينيين، على قاعدة التضامن الطبقي ضد الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة».
ولغياب حجتها ومرجعيتها السياسية المتكاملة، تختلق الحركة مناكفات موسمية، من خلال اختيار مواقف أو مبادرات معينة «لخصومها» السياسيين.
وبدلاً من الدخول في حوار مُجدٍ ونقد موضوعي، يسعى منظّرو اليسار الاجتماعي إلى تشويه النص والافتراء عليه. وكمن يشعر بالتهديد، فإن هذا النهج بات يسيطر على كل حواسّهم ومنطقهم وقراءتهم السياسية، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن هذه العدوانية الدائمة، وهذا التشبث بعقلية الأحقاد والثارات المستمرة.
يتمسك اليسار الاجتماعي، بشكل محموم، بأمثلة تنقض في جوهرها منطقه وخطابه، فهو في الوقت نفسه الذي يرى نفسه ــ وليس أحد غيره ــ «المعارضة الوطنية»، فإنه أيضاً يعدّ نفسه «يسار الدولة» ويطالب بعدد على قياسه من المقاعد الوزارية الخدماتية، يسمي هذه الوزارات ويعلن استعداده للالتحاق الفوري بالحكومة على أساس برنامجها.
ويظهر بؤس القراءة الاقتصادية لهذا اليسار عند تصويره بأن الليبراليين الجدد، مجرد عصابة طارئة ومنعزلة من أشخاص معلومي الأسماء والألقاب، ويمكن أن تعدّهم على أصابع اليدين، يعملون في الظل بعيداً عن الخيارات الاقتصادية والسياسية للحكومات المتعاقبة.
ويحاول اليسار الاجتماعي أن يقنعنا بأنه من الممكن معارضة السياسة الاقتصادية وبعض رموزها ولكن ليس الحكومة صاحبة هذه السياسة، في مشهد عجيب تتطابق فيه مواقف اليسار الاجتماعي مع البيروقراطية المتضّخمة. في «مبادرته» الأخيرة، يحاول اليسار الاجتماعي، تجديد الميثاق الوطني الأردني الصادر عن المؤتمر الأردني الأول لعام 1928، في محاولة عابثة منهم بإجراء «تعديلات» على هذه الوثيقة التاريخية، بإقحام عناوين مثل «الفدرالية والكونفدرالية والخيار الأردني» أو «محاربة الخصخصة والتصرف بالأراضي والعقارات والممتلكات العامة».
ولا نعرف طبعاً من الذي أعطاهم الحق بتعديل أية وثيقة تاريخية، ومحاولة فرض قراءتهم السياسية الآنية على رجالات ومؤسسي الحركة الوطنية الأردنية قبل ثمانين عاماً، واستغلال تراثهم الوطني والاستقواء به؛ الأمر الذي يكشف تهافت أسلوب توظيف التاريخ والتراث بشكل انتقائي وسلفي، وإسقاط التعامل الجدلي مع قيم تكوين الشخصية العربية عبر آلاف السنين، والقفز إلى قيم جزئية ضمن الصورة العامة.
يلتقي مفهوم اليسار الاجتماعي مع مقولة هنتنغتون عن «الكتلة المقابلة» التي يرتكز بها على مفهوم الخوف من الآخر الخارجي. وهنا يستعمل اليسار الاجتماعي هذا المفهوم، في سياق قمعي ولا عقلاني، يحوّل جزءاً من المجتمع إلى هذه الكتلة المقابلة، ويبدأ برسم قراءاته السياسية وأطروحاته على ضرورة فصل هذه «الكتلة» عن المجتمع وتجريمها، وخلق إحساس جمعي استقطابي في المجتمع في اتجاهين، يضرب التطور المجتمعي السياسي ويهدد السلم الأهلي.
وفي وقت تحاول فيه الحركة اكتساب مشروعيتها من خلال طرح شعار مناهضة العولمة، فإنها تسقط في فخ العولمة البدائي والهادف إلى تفتيت الأوطان وتشظّي المجتمعات، وتفكيكها لإعادة تركيبها ضمن مفاهيم السوق وحركة رأس المال.
لا يكفي أن تتعلق عاطفياً أو لفظياً بمكانك حتى تكون منتمياً أكثر من غيرك لوطنك، فالمكان لا يتحول إلى مجتمع حقيقي بالمعنى الشامل والمكتمل إلا من خلال وصول الناس الذين يعيشون فيه إلى وحدة أفقية فيما بينهم، مركزية بين مجموعهم وأرضهم، تذوب فيها كل العصبيات من دينية وعرقية ومذهبية وجهوية، دون أن يعني ذلك التنكر لأي من هذه المكوّنات كعناصر خصوصية وتنوع وغنى ومهمّات داخل الوحدة الكلية.
ولا يمكن قوى اليسار إلا أن تكون في مركز هذه العملية التقدمية والديموقراطية لإحداث الشروط الضرورية للتعامل مع القضايا المصيرية سواء المتعلقة بالانتماء أو السلطة أو الحريات العالمة وعلى رأسها الحريات السياسية والفكرية.
* عضو المكتب السياسي
لحزب الوحدة الشعبية الديموقراطي الأردني