سعد اللّه مزرعاني *رغم طابع غالب ما زال سلبياً، تطلق تفاعلات الأزمة اللبنانية بعض الإشارات الإيجابية. ويمكن إعادة أسباب صدور هذه الإشارات إلى عوامل خارجية، وأخرى داخلية. والعوامل تلك، تفعل في حالتي الانحسار (تراجع تأثير أدوار البعض) والتقدم (زيادة تأثير أدوار نقيضة أو متباينة أخرى)، لمصلحة تعزيز العناصر المحلية (اللبنانية) وتثقيلها في ما ذكرنا من تفاعلات الأزمة اللبنانية. لقد مثّلت حرب إسرائيل على لبنان عام 2006 ذروة تعاظم الدور الخارجي في الأزمة اللبنانية. ومثّل فشل تل أبيب ومن ورائها واشنطن في تحقيق أهدافهما من وراء هذه الحرب، ذروة في تراجع هذا الدور. لقد قدمت سوريا وإيران مساعدات كبيرة للمقاومة في تصدّيها للقوات الإسرائيلية. لكن الجهد اللبناني، بالدم والصمود وبالتضحيات وبالإنجازات المدهشة، كان العامل الأساسي في تقرير نتائج هذه الحرب، وبشكل لم يكن متوقعاً إطلاقاً، وعلى ذلك المستوى من الإتقان وحسن إدارة الصراع والمعركة...
وقبل ذلك، كان التحالف الثنائي بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، قد أسس لمسار في العلاقات الداخلية، مختلف عن ذلك الذي كان قائماً أو كان ممكناً، في مرحلة الإدارة السورية للبلاد. بمعنى آخر، فقد أطلق ذلك التحالف بين الحزب والتيار، مقدمات دينامية جديدة، في التعامل مع أزمات البلاد ذات المصادر والتفاعلات الدولية والإقليمية والعربية والمحلية.
وفي سياق جملة تداعيات ناشئة أو صراعات مستمرة، كشفت حوادث 7 أيار الماضي، قدرات إضافية من جانب أحد طرفي الصراع على حسم بعض الأمور الأمنية الأساسية، وخصوصاً في العاصمة. وقد حال ذلك دون تدهور الأوضاع إلى نظير ما هو قائم في غزة والضفة الغربية بين حركتي «حماس» و«فتح». نعم، ليس من الصعب تصوّر نشوء «جمهورية الضاحية» المعارضة، من جهة، و«جمهورية بيروت» الموالية، من جهة ثانية، فيما لو تركت التوترات والاستنفارات والصدامات تتراكم وتتحوّل تدريجياً إلى حالة نوعية على الشاكلة التي ذكرنا.
إن إخراج بيروت من الصراع، ومرة جديدة، بزيادة نسبة المؤثرات الداخلية (اللبنانية)، قد غيّر في نسبة القوى، وكشف أيضاً، عن تراجع تأثير العوامل الخارجية (التي كانت تعد بأكثر مما فعلت)، حين اندلعت الاشتباكات في العاصمة وفي بعض مناطق الجبل. لقد كرّس «اتفاق الدوحة» هذه الوقائع في هدنة أثمرت إنجاز انتخاب رئيس للجمهورية. كما أثمرت تأليف حكومة جمعت طرفي الموالاة والمعارضة.
لكن المهم في الأمر لم يكن الاتفاق بحد ذاته، إنما كان المناخ الذي انعقد فيه مؤتمر الدوحة: بدءاً من المكان وصولاً إلى النتائج...
نتائج «الدوحة» لم تكن موضع ترحيب من دول ذات تأثير كبير في الوضع اللبناني، كالولايات المتحدة الأميركية والسعودية. وهي تركت أيضاً مفاعيل وتغييرات واضحة على سياسات عدد من القوى السياسية وتوجهاتها، كان أبرزها النائب وليد جنبلاط. ويثابر جنبلاط، منذ أيار الماضي، على بلورة خط سياسي وسطي ومنفتح وتصالحي، يكاد يكون في بعض القضايا الأساسية، نقيضاً لما كان يروج له قبل ذلك التاريخ.
ولا تنفع في شيء مكابرة «الأمانة العامة» لـ14 آذار، في استئناف المواقف والعلاقات والتوازنات، وكأن شيئاً لم يحصل. فما حصل من تغيير كان ملموساً، وحتى أساسياً. وكان يجب انتظار تقدم دور بعض القوى السلفية الموصولة بأحد مراكز القوى في المملكة العربية السعودية، من أجل تحرّك حلقة جديدة في الداخل اللبناني: نعني مبادرة سعد الحريري ومسارعته لإجراء «مصالحة» في الشمال عموماً، وفي مدينة طرابلس خصوصاً، من أجل إعادة الأمن والاستقرار إلى تلك المنطقة.
لا يمكن إغفال الدور المصري في مبادرة الحريري في الشمال ومن ثم في البقاع... ذلك أن القاهرة قد دخلت على الخط (مرة ثانية بشكل لافت بعد استقبال قائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان عشية ترشيحه من جانب الموالاة أيضاً) عبر زيارة وزير خارجيتها أواخر الشهر الماضي إلى بيروت.
ونحسب أن زيارة الوزير المصري كانت، أيضاً، تعبيراً عن حسم الموقف السعودي (في مواجهة موقف سعودي آخر) لغير مصلحة المضي في تدعيم دور التيارات السلفية وتعزيزها في لبنان عموماً وفي مدينة طرابلس خصوصاً، على حساب دور «تيار المستقبل»، وبذريعة قدرته الكبيرة (أي التيار السلفي) على مواجهة «حزب الله» وسلاحه وعودة نفوذ النظام السوري إلى لبنان...
لقد أشارت جريدة «الأوريان لوجور» اللبنانية الناطقة بالفرنسية في عددها نهار الاثنين الماضي (في امتداد خط متشدد لها على غير ما درجت عليه)، إلى ملاحظة أن زيارة الحريري إلى الشمال كانت تحركاً لبنانياً داخلياً في مواجهة تدخل الرئيس السوري في الشؤون اللبنانية. هذا الكلام صحيح في شقه الأول. لكنه غير كاف على الإطلاق، لأنه يحجب أيضاً حقيقة أن تحرك الحريري (الذي هو في جزء كبير منه فعل داخلي) قد نجم أساساً عن هلع مصري (خصوصاً) من تنامي دور الجماعات الإسلامية في لبنان وفي فلسطين (وتالياً في مصر نفسها).
ومعروف أن ساحتي لبنان وفلسطين متداخلان على نحو وثيق، وخصوصاً بالنسبة للتيارات الأصولية المتشددة في شمال لبنان وفي المخيمات الفلسطينية القائمة على الأراضي اللبنانية.
نستطيع القول إذاً، إنه على طرفي الصراع ما بين الموالاة والمعارضة، المجموعين الآن في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، تتعزز التوجهات والتفاعلات التي تزيد في نسبة العوامل المحلية، في معادلة الأزمة اللبنانية وصراعاتها وتداخلاتها.
ويمثّل هذا الأمر مصدر ما ذكرناه من إشارات إيجابية. ويجب أن نضيف إلى كل ذلك استعادة دور لرئاسة الجمهورية لا شك في تأثيره الإيجابي، بعدما دخلت الرئاسة في العهد الماضي في الاستقطاب الحاد الذي عطّل دورها المرجعي (دون أن نحكم هنا سلباً على الرئيس السابق العماد إميل لحود الذي كانت له وقفات تاريخية في بعض الشؤون كما كان مصدر خيبات كبرى في شؤون أخرى). والواقع أن الرئيس ميشال سليمان يحاول، عبر عدد من الخطوات والمواقف، أن يعزز من دور اللبنانيين في التعامل مع أزماتهم. وتصب في هذا المجرى نتائج زيارته إلى دمشق ومحاولة فتح حوار مثمر (بدل النزاع والصراع والصراخ...) مع قيادتها. كما يصب في هذا الاتجاه اختياره للقائد الجديد للجيش... إلى دعوته للحوار مجدداً في الأسبوع المقبل (رغم ملاحظات جوهرية على هذا الحوار).
بيد أن هذه التراكمات الإيجابية قد اتخذت في الغالب الأعم مساراً تقليدياً، أي إنها لم تقارب، في المواقف وفي التوجهات أيضاً، إحداث تحوّل نوعي في التعامل مع جوهر الأزمة اللبنانية. وحدها استقالة (وأسباب استقالة) الرئيس السابق لمجلس النواب حسين الحسيني، أشارت إلى مصدر أساسي في الخلل، في مسألتي بناء مؤسسات الدولة، وموضوع قانون الانتخاب.
ولا يعني ذكر تفرد الرئيس الحسيني في هذا الأمر في مجلس النواب، إسقاط دور آخرين من خارج المجلس، ممن يثابرون على المطالبة بالإصلاح كمعبر إجباري لمعالجة جذرية لأزمات لبنان المتعددة: من أزمة التوحد إلى أزمة السيادة، إلى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية... لكن ذلك يجب أن لا يحجب الضعف الكبير الذي يسم عمل القوى الديموقراطية واليسارية. فهذه القوى مشتتة ولا يجمعها إطار وبرنامج يستدعي استمرار غيابهما، أول ما يستدعي، الاعتراف بالخطأ والتقصير والإعراب عن نقد ذاتي مشفوع بمبادرة سريعة من أجل بناء الموقع السياسي والشعبي الديموقراطي المنشود.
إن مثل هذا الموقع يستطيع أن يضيف الكثير إلى المشهد المتفاعل الداخلي. وهو يستطيع حتى، في حالة المبادرة والنشاط، أن يؤدي دوراً مميزاً، وربما، تاريخياً، في توجيه مسار الأزمة اللبنانية نحو بداية الحل، ومسار لبنان نحو تكريس وترجمة إنجازات شعبه العظيمة في حقلي المقاومة والديموقراطية.
* كاتب وسياسي لبناني