أنسي الحاج
امرأة البحيرة
عرفت امرأة لم أعرف مثلها: امرأة تعاني مشكلة عدم اقتناع الرجال بالعلاقة العابرة. امرأة ترفض المؤسسة، حبّاً رومنتيكياً دُعيتْ أم إصراراً على المتابعة، بزواج وبدونه. عرفتُ رجالاً دونجوانيين ولم أعرف امرأة دونجوانة مثل هذه. وكلّما ازدادت هَرَباً من الالتزام ازدادوا تعلّقاً بها.
شغفها الأكبر الافتتان بالجديد. تليه الحاجة إلى إغراء مَن ينتزع إعجابها.
امرأة حرّة، على جمال غير راضٍ عن نفسه، وطبيعة تجهل التعقيد والرياء. أنوثة وخَفَر وجرأة وذكاء مغلَّفة، دون أيّ تكلُّف، بوجه البساطة، بساطةٍ تَخْدع الصيّاد فيُقْدِم، فيُصاد.
تدخل كالحلم في رأس الرجل وهيهات أن تَخْرج منه. لكنّه هو يدخل كتحدٍّ سريع أو كهاجس سطحي في نفسها لا تلبث أن ترتاح منه باستهلاكه، أو بنسيانه عبر الإعجاب بشخص جديد. تترك وراءها مفطومين معذَّبين ولا يتركون فيها، إذا تركوا، غير ظلال تتلاشى.
وليس في الأمر خوفٌ من الحبّ، كما قد يدّعي محلّلون نفسيّون، ولا أيّ نوعٍ آخر من الخوف، بل مجرّد طَبْع كالهواء لا يرتاح لغير التنقّل.
خطأٌ وَصْفُها، كما فعلتُ، بالدونجوانة، بعدما أُلصقتْ بشخصيّة دون جوان مختلف الخصال والنعوت الفيزيكيّة والميتافيزيكيّة، تبعاً لهوى مَنْ يكتب عنه، حتّى بات أقرب إلى الفاجعة منه إلى الجنس، وأكثر فَوْحاً بالموت منه بالحياة.
امرأة حرّة مشدودة إلى الاكتشاف، تَشْقى حين تتوقّف عربته ولو فترة استراحة، وتزدهر بالتغيير والمفاجأة. والأغرب في هذا، أنّها لا توحي عدم الاستقرار، بل الاستقرار وكلّ صفاء الاستقرار، مثل وجه بُحيرةٍ ساكنٍ لا يصرفه عن سكونه حتّى الاكتواء بلهيب الشمس. هنا، إذا أردتَ الجمال، فما عليك إلا أن تنْظُر، وإذا أردتَ التعمّق فستغرق، وستغرق وحدك، مثل كلّ مَن يحاول تحريك ما يفوقه تحرّكاً وانعتاقاً، تحت نقاب السكون.
هذه المرأة لا يَنْقصها إلاّ شيء واحد، هو أن تجد ذات يوم رجالاً مثلها.

قلبٌ ضائع
يكتب المعلّقون، يصرّح السياسيّون، تُصوّر الكاميرا: يُعْجَب المتلقّي لغزارة معلومات الأساتذة، لبراعة الكاميرا وهي تلتقط صور الكوارث، ويبقى شيءٌ غائباً لم يعد يكترث أحد لغيابه: إنه الشعور.
كنتُ أتابع صور مأساة المقطّم في القاهرة. ثم أخبار «زيادة» الحدّ الأدنى والرواتب. وقبلها تطوّرات الإعصار على الشواطئ الأميركيّة. وقبله العراق، دارفور، أفغانستان، سوزان تميم. إلخ. وقبلها تبرئة صاحب العبّارة التي قُتل فيها غَرَقاً ألف شخصٍ في مصر.
فضلاً عن. إلخ.
أقلّ واحدةٍ من هذه المآسي تمزّق القلب. أخفّ ظاهرة من الظواهر الطبيعيّة ملحمة رهيبة. «زيادة» الأجور الفضيحيّة كانت في الماضي، وفي مجتمع غير مجتمعنا المريض، ستتسبّب باندلاع ثورة شعبية. انكشاف كل واحدة من عورات الأنظمة العربيّة كافٍ لانهيار النظام لو كان العرب غير العرب. لكن المآسي لم تعد تحرّك إحساساً لدى أحد.
لعلّ تعميم الإعلام قد جفَّف الخيال. تعميم المعرفة جعل كل واحد يعتبر أن سواه مسؤول عن ردّ الفعل. التنوير زَرَعَ التنصُّل.
يجب البحث عن القلب. تنقذه الجراحة ولكن لا تحرّكه الحياة.
إعادة تركيب قلب للإنسان «الجديد».

بحث
إعادة تركيب صورة الشيطان. صارت متخلّفة.
البحث عن أماكن الشرّ «الجديدة». «الشرّ الجديد». كلّما انكشف وجه صار لزاماً إبدال قناعه. «الخير الجديد» أيضاً أين تُراه يكون؟

غزال الصحراء
للصحراء أيضاً غزالها. معجزة لم يطلبها أحد. اجترَحَها شعور الطبيعة بنقص ذاتها.

قليل، كثير
الذي يرى كلّ شيء لا يعود يرى شيئاً. الرائي قليلاً يتنشّط ليستطلع. القليل أفضل من الكثير للبداية، لذلك البداية دائمة، لأن النفس لا ترى في الكثير إلا القليل. وليس هذا طمعاً كما يُظَنّ، بل تحايل على الارتواء تفادياً للموت.
البخيل لا يشبع تكديساً لأنه يرى في الثروة تعويذة ودرعاً ضدّ الزمن.
... الذي يرى كلّ شيء... ولكنْ مَن ذا يرى كلّ شيء!؟

بين الأمواج
في غمرة هذه الأجواء الطقوسيّة يزداد إحساسي بالتهميش. وهذا حَسَن. ولا مرّة مثل هذه المرّة يتأكّد لي أن ثمّة كائنات، وأنا منهم، لا حياة لهم خارج النَمَط الشخصي. وإنْ يكن النمط الشخصي مليئاً بالأشواك. لم أقطع العلاقة، العلاقة غير موجودة أصلاً. ولا مرّة شعرت بجدوى المؤسسات. كلّ ما أرجوه منها أن لا تتدخّل في شرنقتي.
في هذا الجوّ الديني. في هذا الجوّ الوطني. في هذا الجوّ العام...
مررتُ بالذكريات فرأيتُ أنّ ما عشته خارج غرفتي الشخصية لم يكن سوى إهدار للذات، سوى ابتعاد عن جلْدي وعظمي. وما من سَفَرٍ أبعد من الدوران حول الذات.
أفضل ما في الخارج هو المواد الصالحة لتحويلها إلى الفرن الداخلي. وأفضل هذه المواد ما يبعث على الرغبة. النجاح، وما من نجاح سواه، هو اختطاف أكبر قَدْرٍ ممكن من هذه «الصُّوَر» وضمّها إلى الذات.
تغمرني الأمواج وأبقى ناشفاً.

لا تَفْهَمْني
أُفضّل أن تحبّني أو تكرهني لا أن تحاورني. أكثر ما يُحتمل من هذا القبيل هو حوار الذات. وفي أوقات الصفاء وحدها. ولا أريد أن تفهمني، فهمكَ سيحدّني بك، سيقزّمني. دعني أتخيّل نفسي أَبعد من هذا. لا أحد منّا يبحث عمّن يفهمه بل عمّن يُعجب به، عمّن يسيء فهمه. سوء الفهم هو حَجَر الأساس في قعر العدم. سوء الفهم خلّاق وتقدّمي.
دع عنك سؤالي. دع لي عكّاز النبل في يدي. لا تَفْهَم بل تَفَهَّم. ليس في البداية حريّة. دعنا نتوهّم أن في النهاية ما يشبه الحريّة.


عابرات

«الشعرُ نَكَدٌ بابُه الشّرّ، فإذا دخلَ في الخير ضَعُف. هذا حسّان (ابن ثابت) فحلٌ من فحول الجاهلية، فلمّا جاء الإسلام سقط شعره».
الأصمعي
■ ■ ■
«ورُبَّ جوهرِ علْمٍ لو أبوحُ بهِ
لقيلَ لي أنتَ ممَّن يَعْبدُ الوثنا».
الإمام الرابع علي زين العابدين
■ ■ ■
«اعْلَمْ أنَّ جهنَّمَ إذا رأتني تَخْمدُ!».
أبو يزيد البسطامي
■ ■ ■
«والشَّيْبُ يَنْهضُ في الشبابِ كأنّهُ
ليلٌ يصيحُ بجانبيه نهارُ».
الفرزدق
■ ■ ■
«إنَّ مرّةً واحدةً لا تُحْسَب. مرّة واحدة هي «لم يحصل قطّ». وعَجْزُنا عن أن لا نحيا غير مرّة واحدةٍ شبيه بعدم حياتنا على الإطلاق».
ميلان كونديرا
■ ■ ■
«من الظلم أن يتعلّق بي أحد، حتّى لو فعل ذلك مستمتعاً وبمحض اختياره. سوف أكون مخادعاً للّذين أولّد فيهم رغبةَ الكَلَف بي، لأنّي لستُ الغاية لأحد ولا أنا بقادرٍ في شيء على الإرضاء. ألستُ مستعدّاً للموت؟ وبموتي سيموت الغرض الذي تعلّقوا به. وكما أكون مذنباً إن أوحيتُ الاعتقاد بشيء زائف، ولو فعلتُ ذلك بلطف، ولو أيضاً صدّقوا الاعتقاد تصديقاً يمنحهم الشعور بالرضى، معطينني في الوقت ذاته شعوراً لي أنا بالرضى، كذلك أكون مُذْنباً إنْ حبّبتُ بي الآخرين واجتذبتُ الناس إلى التعلّق بي».
باسكال ـــــ «الخواطر»