خضر سلامة«المقطم مأخوذ من القطم وهو القطع كأنه منقطع الشجر والنبات، لذلك سُمّي مقطماً، ويتضح من ذلك أن جبل المقطم عُرف بهذا الاسم نظراً لأنه مقطوم، أي مقطوع بمعنى أن أجزاءه غير مرتبطة أو غير متصلة». جبل المقطم مقطوع من كل شيء، عن كل شيء، لم يعطِ الكبار من جعبة النيل لأبنائه المجبولين بالعرق المالح إلا فسحة من هواءٍ أصغر من كفّ طفلة، تشحذ لقمتها وتقسم بكحل أمّها صباح اليوم بأنها اشتاقت لـ«رائحة اللحمة»، أعطى عتاة المال ونواب النظام هنا ونواب الإسلام هناك للفقراء فسحةً من غبار، من جراح، من بحث مرير عن حذاء جديد يحمل قليلاً من فرح رمضان، فسحةً من جوع مرير، حان موعد مصادرتها، دفنوهم تحت فقرهم، تركوا لهم العراء، وكثيراً من أشلاء لصور تصلح لأن يعلقها العالم الموبوء بالمال، جداريةً على حائط «ريّس» لم توقظه أصوات البكاء ولا صراخ المفقودين تحت أنقاض الحقد الطبقي. جبل المقطم هو الحدث والحادث والحديث، «يا مصر قومي وشدي الحيل»، بأظافركم ابحثوا عن جدّ أخذته الأرض إلى قبر يليق بكادح، بأسنانكم انهشوا وحدتكم وابحثوا عن طبق الفول الذي خطف أماً عن تنورها، هاتوا معاولكم وانحتوا بها الصخر، ما كسر الصخر معولاً يوماً، بل حدثني عجوزٌ أن المعاول «بتهد جبال»، هاتوا كل شيء لديكم، يا شعب مصر، اضربوها، ارجموها، ستسقط الأصنام، أصنام من حجارة، مجرد حجارة.
من للفقير إلا الفقير؟ الموت تحت الأقدام هنا، والموت في شيكات البنوك هناك أيضاً، ستموتون مختنقين بأنياب ذئاب صُنعت في ليلة خطيئة، ولن تبعثوا إلا عبيداً إذا قبلتم موتاً هادئاً لا يضج بعصف الصباح، سنختار أن نموت بين السلاسل، مشدودين إلى جذع منزل من طين لم يسرقه غضب المقطّم بالأمس، سنموت كما يموت الفقراء، فقراء لكن.. مبتسمين جوعاً.
أيها الطفل الراكض خلف سيارة الإسعاف، اسأل سائقها عن المسافة بين المعدة الخاوية، والثورة.
أيها الهرم المثقل بالتشرد بعد الكارثة، هل تملك في جيبك سعر رصاصة؟ أو سعر سكين على حجم قلب متحجر يسكن كرسياً في قصر فوق أرضك؟
أيها الرجل الباحث عن يد زوجته تحت الركام، بكم تشتري طعم الثأر من كاذب، من نائب معارض أو موال يأسف عند الصبح لوجعك، وينام بجثث أطفالك ليلاً؟
أيتها الأرض السمراء، يكفيكِ أنك أرض مصر، فلتعترفي الآن: من يداوي جرحك كل مرة بعقاقير النسيان؟
أنا أعرف وجوههم، أعرف كل الأسماء، أعرف القتلى، وأعرف القتلة، أعرف الضحية والقضية، خذوني بياناً غاضباً جائعاً إلى كل المحافل، علّقوني على كل القبور، دعوني أعمّر خيمةً من وهم، أن أقنع نفسي بأن مواطناً عربياً قتله فلانٌ، ولم يقتله مجهول، دعوني لمرة أرفض أن أصدّق أن قلب «أحمد نظيف» يصلح «مساكن شعبية» للتائهين على رصيف الكارثة، وأن أصدق حجة أن «القدر لم يمهلهم»، وليس النظام هو «من أهملهم»، دعوني أرسم وطناً بين المحيط والخليج ولو بحجم عصا شرطي تسقط على كتف كسرها وجع الخبر العاجل، وطناً يملك فيه الإنسان العربي غرفةً، وزوجةً، ورغيف خبز، وصورةً شمسيةً لمئات العالقين تحت حجارة المقطّم، تحت أقدام الأغنياء. قبل أن تنسوا ما حدث هناك بقليل، اقرأوا الفاتحة، رتّلوا قليلاً، ارفعوا أيديكم إلى السماء، إن كنتم جعلتم لأنفسكم إلهاً تعبدونه في الليل، اطلبوا منه أن يبني لكل شظية من بقايا جثة هربت من «عشوائية»، أن يبني لها كوخاً، يرسم فوقه علم مصر.. مصر أم الدنيا، أم فقراء هذه الدنيا.