حاولت أميركا أن تراوغَ وأن تناورَ وأن تزعمَ أن الاستدارة الليبيّة كانت من ثمار غزو العراق. كَذَّبهم المرشّح الأميركي الرئاسي السابق غاري هارت، وصرّح بأن الاستدارة الليبيّة بدأت منذ التسعينيات، عندما كان العقيد يخطب ويهذي ضدّ أميركا وإسرائيل، فيما كان يرسل ضباط استخباراته لاستجداء غفران أميركي وإسرائيلي
أسعد أبو خليل*
كان المشهدُ بليغاً. كوندوليزا رايس تقف باحترام أمام من وَصَفَه رونالد ريغان بـ«كلب الشرق الأوسط المجنون». وزير الخارجية الأميركي الأسبق، جورج شولتز، بحثَ في اجتماع رسمي تَسَرّبَ مَحضرُهُ في إمكان حَقنِه بفيروس «الإيدز». لكن رايس أعطت دروساً في السياسة الخارجية الأميركية ـــ من دون أن تدري ـــ في طائرة الرحلة إلى ليبيا. نقلت عنها صحيفة «واشنطن بوست» قولَها إنه لا أعداءَ دائمين للولايات المتحدة. هذا الدرسُ البليغ فاتَ ثوارَ الأرزِ المُلتهين بإقدام بشار الأسد على طعن السيادة.
أما دعوات الإدارة الأميركية لإرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب، ودعوات تيري رود لارسن لإمرار قانون انتخابي مُعيّن عام 2005، فلم تكن تدخلاً في سيادة لبنان المحترمة، بل من باب التحبّب والتودّد من جانب الرجل الأبيض. أضافت رايس أن أميركا تكافئ كل مَن يُحدثُ «تغييرات استراتيجيّة في الوجهة».
لا مكانَ للمبادئ في عالم القطب الأحادي. ثوّار الأرز وحدهم صدَّقوا كلاماً أميركياً عن الديموقراطية (وكأنهم هم ديموقراطيّون)، وعن الحريّة (وكأنهم هم أحرار)، وعن مكافحة الإرهاب (وكأنهم أبرياء من تهم الإرهاب وبعضهم بَرعَ فيه).
من نكد الدهر على العالم العربي أنه نُكب بشلّة من الطغاة المصابين بعقد نفسيّة وسياسيّة عويصة. تجول بناظريْك في الواقع العربي وترى أصنافاً أصنافاً من الحكام. واحدٌ (أو أكثر) مُصابٌ بعقدة جمال عبد الناصر، وآخر ماتَ مُصاباً بعقدة صلاح الدين، وآخر يريدُ لنفسِه موقعاً يُماثلُ مواقع الأنبياء، وآخر (أو اثنان على أقل تقدير) مصابٌ بعقدةِ والدِه ويسعى في كل ما يفعل إلى تقليدِه، في التسلّط وفي التصرّف الشخصي وحتى في نمط الكلام.
ثم هناك العقيد، وأي عقيد. هذا الذي أتى إلى الحكم في زمن الانقلابات (كم كانت مسليّة تلك الحقبة، تنامُ على ظالم، لتصحو على خليفتِه ـــ ظالمٌ آخر) وأصبحَ من أقدم الحكّام في العالم قاطبةً. كان في البداية يريدُ أن يتمثّلَ بعبد الناصر، وكان يتمتّع برواية (قد تكون مُختلقة) عن وصفِ عبد الناصر له، بأنه يذكّره بشبابه. لكن العقيدَ أصيبَ بالصدمة عند وفاة عبد الناصر.
يروي عضو في الوفد اللبناني الرسمي للتعزية بعبد الناصر في ذلك الصيف المدلهم، أنّهم رأوا العقيد الشاب يهيمُ على وجهِهِ في شوارع القاهرة مصدوماً مفجوعاً. سرعان ما تخلّص العقيد من عقدةِ عبد الناصر، ليعاني عقداً أكبر وأصعب. مُتسلّط يريد أن يكون مفكراً ومُتسلّط آخر يريد أن يكون روائياً، ومتسلّط يريد أن يُحنَّطَ ليحكم مثل الفراعنة خالداً.
أراد العقيد أن يصبحَ مفكراً ومنظِّراً. كان يحيطُ نفسه بعدد من المثقفين العرب المطبِّلين له. كانوا يتوافدون زارافاتٍ زرافات إلى ليبيا في احتفالات الفاتح كما يتوافدون اليوم ـــ هم أنفسهم غالباً ـــ إلى مهرجان الجنادرية في مملكة القهر. كان الصحافيون يتقاطرون إلى ليبيا، والمقربون (الأولى بالمعروف) كانوا يحظون بلقاءات «فكرية» طويلة ومطوّلة. طبعاً، كانت مناقشة «الكتاب الأخضر» عنواناً للقاءات وحوارات وندوات ومؤتمرات لا يجمع بينها إلا الملل.
ترهاتٌ متلاحقة في ذلك الكتاب (الذي أراده نظريّة كونيّة ثالثة ـــ لم يسمع حضرتُه إلا بنظريّتين فقط) التي تدفع القارئ إلى التساؤل الملحّ: تحت أي تأثير كتبَ العقيدُ كتابَه هذا؟ كم من الورق بُدّدَ وأُتلفَ في الكتابة عن ذلك الكتاب الضحل؟ مؤلفٌ لواحدٍ من تلك الكتب في الإنكليزية قال لي: لا تتعجب لأنني كتبتُ هذا الكتاب، الذي بالكاد قرأتُه. لكن أتدري مقدار المبلغ الذي تلقيته مقابله؟
مراكز أبحاث موَّلها العقيد. كان المشرف على المركز يصرّ على أخذ نظرية العقيد على محمل الجد. هناك من كان يضغط ويشد بأسنانه لعدم الضحك عند حضور الندوات. ولكنك تلوم الذين كانوا يتوافدون (مثل جورج حاوي وإنعام رعد ومحسن إبراهيم وغيرهم) إلى ليبيا ليقنعوا العقيد (أو ليزيدوا من اقتناعه) بأنّه في مصاف ماركس ولينين.
لم يجرؤ أحد من هؤلاء على مصارحته بالحقيقة: إنّ خطاباته وحواراته تدخل في صنف هذيان المشعوذين. لم يهتم أحد من زوار احتفالات الفاتح بمفاتحة العقيد بأمر الشعب الليبي الواقع تحت ظلمه.
يتحدث في كتابه المضحك عن لجان ثوريّة وعن جماهيريّة وعن وعن...
جماهيريّة؟ لم يعلمْ أن كلمة جمهوريّة هي من الجذر اللغوي نفسه. أراد ويريد الفرادة، ولا يصيبه منها إلا قشورها. كان يستسيغُ صفة القائد العسكري، فنزع نحو البزة العسكرية المزركشة بالأوسمة والنياشين.
كانت البزة العسكرية تتناسب مع صفته كعقيد وكقائد ثورة. ليس هناك من يسأل أصحاب النياشين العسكرية في العالم العربي عن «أسباب التعليق».
هل هي إشاراتٌ للانتصارات أم لهزائم شنيعة ومتلاحقة؟ هل النياشين تعلّمُ في ما تعلّمُ هزائمَهم وهزائمَنا الشنيعة؟ هل هي للتذكير بهزائم 1948 و1967 والعراق و1982 وهلم جرّاً؟ أم إنّ النياشينَ والأناقة العسكرية هي للتعويض عن نجاحاتٍ في الميدان؟ لم يكن هناك من يقول للعقيد أو لأنور السادات أنهما بنياشينهما وياقاتهما المنشّاة بالغرور والصلف، يظهران مظهر كاريكاتورات الطغاة العسكريّين في الأفلام الأجنبيّة.

تاريخ من الهذيان وشراء الذمم



لم يكن هناك من يقول للعقيد إنّ لعبة لقب «قائد الثورة» باخت وشاخت. هؤلاء يبتذلون حتى الكلمات الجميلة السامية مثل الثورة والتحرير. لكن العقيد عاد وهجر الزي العسكري واختار الملابس الأفريقيّة المزركشة. لم يثبتْ في موقف إيديولوجي واحد، ولم يكن قادراً (ربما ذهنياً) على تبنّي عقيدة. وخطاباتُه وحواراتُه تدور في حلقاتٍ مفرغة، وتنمّ عن عقلٍ يعاني التشوّش والاضطراب المُقلق.
طبعاً، إن الغربَ يحكمُ على كل من يعارض مشيئة أميركا بالجنون: كل خصوم أميركا حول العالم اتُّهموا بالجنون والإجرام. لكن حالة العقيد تحتاج إلى تحليل طبّي أكثر من حاجتها إلى تحليل نفسي أو سياسي. لا يركنُ إلى موقف: ينتقدُ الولايات المتحدة وسياساتها أحياناً، ثم تقرأ بعد أسبوع أن الولايات المتحدة راضية تماماً عنه، وأنه لا يزال يمارس التعذيب (مثله مثل الأردن والمغرب والسعودية ومصر وسوريا قبل 2005) على من ترسل إليه الحكومة الأميركية من متهمين. يفتحون دفاترَ استخباراتِهم للحكومة الأميركية لعلّها ترضى عنهم: وسفير سوريا في واشنطن لا يتوقّف عن دعوة الحكومة الأميركية للعودة إلى الاستعانة بخبرة الاستخبارات السورية وعلمها في مكافحة الإرهاب (أي في التعذيب والتنكيل). وكوندوليزا رايس حرصت في زيارتها إلى ليبيا على مديح العوْن الذي يقدمه نظام اعترف بتفجير طائرة ركاب مدنيّة.
شخصيّة العقيد ليست جذّابة، وهي تذكِّر هنا بشخصيّة صدام. لماذا يظن حكامُنا أنهم بترويجهم لعبادة الشخصيّة يستطيعون خلقَ محبة الجماهير لهم؟ والعقيد مثله مثل صدام مُصابٌ بغرورٍ قاتل. لا يستطيع حتى في حواراتِه أن يلتزمَ آداب الحوار. عليك أن تعاني مونولوغاً طويلاً ومملّاً وقاتلاً، وفيه من الادعاء أكثر ما فيه من المعرفة أو الحكمة (التي تُؤخذ ـــ عنوةً ـــ أحياناً من أفواه... الطغاة). يروي واحد من اللبنانييّن الذين عرفوه في حقبة السبعينيات أنه يحتفظ بصور له في أماكن مختلفة في منزله الشخصي، أي إنه كان خاضعاً شخصياً ورسمياً لعبادة الشخصيّة التي يفرضها نظامه على شعبه.
لعب العقيد دوراً مهماً في الحرب الأهلية اللبنانية. هو مثل صدام حسين، يحاول أن يعوّضَ بالمال ما يفتقده من سحر جماهيري أو كاريزمي. هؤلاء مثلهم مثل رفيق الحريري أو من خَلَفَه في زعامة العائلة: لن يناصرَهم صبيّ في المحلّة لو نضبت ثرواتُهم. هجرت الصحافة العربية صدام حسين بمجرد أن توقّفَ عن الدفع بعد 1990. على عكس جمال عبد الناصر: كان يحظى بتأييد شعبي وإعلامي ـــ اتفقتَ معه أو اختلفت ـــ من دون دفوعات نقديّة.
ماذا سيحصل لأبواق الإعلام السعودي، لهؤلاء الدعائيّين اللبنانيّين الذين يملأون صحافة آل سعود بالتحيّة لملكِهم المعظّم، لو نضب النفط السعودي؟
ماذا سيحدث لمدائحهم لملك يستعصي الحرف العربي عليه؟
حاول العقيد أن يخلف عبد الناصر في قيادة ما كان يُعرف بالجماهير العربية: تلك الجماهير التي تتحرّك اليوم فقط اعتراضاً على رسوم كرتونية من الدنمرك من دون أن تحرّك ساكناً لحصار غزة الذي تفرضه كل الأنظمة العربية وإسرائيل.
أغدقَ العقيدُ الأموالَ على تنظيمات لبنانية مختلفة: بعضها شيوعي وبعضها قومي عربي، وبعضها الآخر عصابات للسرقة ولترويع الآمنين والآمنات. وأقام علاقة وثيقة مع أمين الجميل منذ السبعينيات، ولم تخفّ على مرّ السنين، لكن العلاقات مع أمين الجميل، كما هو معروف، مُنَزّهة عن الغرض لما يتمتّع به الرجل ـــ خصوصاً في سنواتِ حكمه ـــ من نزاهة ونظافة كفّ يعرفها القاصي والداني وسامي مارون.
وكانت الحركة الوطنية اللبنانية معتمدة على دفوعات (بالملايين) شهريّة من العقيد. كان يرصدُ مبلغاً شهرياً للأمناء العامين لتنظيمات «الحركة الوطنية اللبنانية» (وبعض تنظيمات المقاومة الفلسطينيّة). لم يسألْ أحد عن تلك المبالغ، لكن تأثيرَها كان بالغاً. كان وديع حداد واعياً لخطورة المال السعودي في إفساد حركة «فتح»، وقد خطّط لعمليّة فيينا لاستهداف ذلك الوزير الذي عَرّف ياسر عرفات على الملك فيصل (يُراجع كتاب غسان شربل الجديد، «أسرار الصندوق الأسود»). وقياساً، يمكن النظر إلى خطورة تأثير المال الليبي على ثوريّة «الحركة الوطنية». لم تكن «الحركة الوطنية» تعرف كيف تنفقُ المالَ المُتدفّق. تحوّلت، مثلها مثل «فتح» ومنظمة التحرير، إلى بيروقراطيّة هائلة تتنافى مع ضرورات الثورة والتغيير الجذري. انتقلت الحركة الوطنية من حركة شارعية شعبيّة إلى حركة تُقلّد إدارات الدولة اللبنانية. انتقلت إلى مبنى هائل في منطقة الكولا. كنتَ تدخل إلى المبنى لترى رجالاً (النساء كنّ مغيّبات إلى درجة كبيرة في تلك التجربة) في مكاتب فضفاضة، منشغلين باجتماعاتٍ لا تنتهي.
كان المطلوب عدم تغيير الواقع الراهن في أرض التماس، وكانت ليبيا تحرص على ألا تشطَّ الحركة نحو الثوريّة. وكان المطلوب أيضاً أخذ خواطر العقيد على محمل الجد. تقرأ الصحافة العربية هذه الأيام لتتبيّن الأقلام عينها. الذين تخصصوا في مديح صدام والقذافي، أصبحوا متخصِّصين في مديح خادم... المصالح الأميركية الأمين. ماذا تقول عن الذين يهجون بأمر ويمدحون بأمر أميري؟ صحافة التكسّب استفاد منها العقيد. كما أفسد المال السعودي المقاومة الفلسطينية، فإن المال العراقي والليبي أفسد «الحركة الوطنية اللبنانية» وجبهة الرفض الفلسطينيّة التي كانت واعدة عند انطلاقتها. ويمكن الفصل في تاريخ الكرم القذافي عام 1982. علم العقيد أن نقمة عارمة واجهت كلامه الأحمق عندما دعا المُحاصرين في بيروت إلى الانتحار. وهناك من يقول إن العقيدَ نقمَ كثيراً على متلقّي أمواله من اللبنانيين لأنه اكتشف أنه ليس محبوباً في لبنان، وأن صورَه لا تملأ الجدران. عقدة عبد الناصر مرة أخرى.
والعقيد لم يكن ملتزماً أيديولوجياً أو منسجماً عقائدياً في عطاياه. كان يغدق الأموال على تنظيمات يساريّة ويمينيّة على حدّ سواء حول العالم. المهم هو الترويج لنفسه ولـ«نظريّته» الثالثة من جانب من يبدي استعداداً لذلك. وكان يجزل العطاء على معارضي خصومه الإقليمييّن والدوليّين، وهو في هذا مثل آل سعود وصدام حسين.
المواجهة مع ريغان غيّرت العقيد. عبّر عن خيبة أمل لغياب الاهتمام العربي به وبقضاياه. قلّ زوارُه، وإن واظب أمين الجميل وجورج حاوي على زيارته في الملمّات. أما الاتحادات الاشتراكية والتنظيمات الناصريّة التي كانت ترفع صورَه وأخضرَه فتفرقت أيدي سبأ، بعضها انضوى في إطار تيار «المستقبل السلفي». والعقيد لم يتمتع بعلاقات ودّ مع الاتحاد السوفياتي لأنه رأى في ذاته مفكراً أهم بكثير من ماركس ولينين. كما أن تقلباتِه باعدت بينه وبين الاتحاد السوفياتي حتى في سنوات العزّ. وتجاربه الوحدويّة باءت بالفشل. وما من وحدة دخلها إلا تحوّلت نكتة شعبيّة. وحدات، الواحدة تلو الأخرى، بعضها اندماجي وبعضها الآخر كونفدرالي، وبعضها الأخير غير واضح المعالم. يتنقّل بخفة وهزل بين الوحدوية والجهويّة ـــ كما يسمونها في المغرب العربي ـــ وبين الدعوة الأفريقيّة، مع أن الكتاب الأخضر يتضمن كلاماً عنصريّاً بحق السود استقاه العقيد من خطاب الرجل الأبيض الاستعماري. قد تكون خيبة العقيد سياسية، ولكنها شخصية أيضاً. طموحاتُه لم تتسعْ لحدود ليبيا: أراد العالميّة، على طريقة عمر الشريف. ظنّ أنّ تنظيمات صغيرة تملك عدداً من القنابل والرشّاشات قادرة على مطّ نفوذه وتأثيره. ارتكب بعضها من المرتزقة، على طريقة «فتح ـــ المجلس الثوري»، جرائم لحسابِه، على ما يُقال. لا اليسار قبضه، ولا القوميّون العرب ـــ حتى ممن تلقّى ملايينه ـــ قبضه. يمكنك أن تأخذَه على محمل الجدّ إلى أن تستمع لخطبِه وحواراتِه المونولوغيّة.
لا يكفي أننا ابتلينا بطغاة في طول العالم العربي وعرضه، بل نعاني نسقاً ثقيل الوطأة من الطغاة. يتسم طغاتُنا بثقل الدم، فضلاً عن مواهب خلّاقة في الطغيان وتعذيب المعارضين. كان طغاة أميركا اللاتينيّة أقل نزقاً وأحياناً أظرف من طغاتِنا. فيلم «الموز» لوودي آلن الذي يسخر من أنظمة الطغيان الثوري الذي يلي الطغيان اليميني يُصوّر حب النياشين والألقاب. القذافي كان ـــ نسينا أنه لا يزال يحكم ـــ من طراز مختلف. يصرّ على أنه لا يحكم في ليبيا، وأنه مجرّد «قائد» للثورة. كم أستسهلها كلمة ثورة في العالم العربي. حتى صائب سلام ـــ وهو من عتاة الرجعيّة وسبق آل الحريري في خدمة آل سعود ـــ أطلقَ شعار «الثورة من فوق» ودشّنها بإطلاق النار على عمال معمل غندور المُضربين.
لكن العقيد في ورطة هذه الأيام. فإعلام صدام الذي كان يكنّ له بعض الودّ، أو الحياد، مع أن الطاغيتيْن لم يتحابّا، توقّف عن الصدور، أو «تحوّل»، مثل مجلة «الوطن العربي» الباريسيّة، التي أيّدت الغزو العراقي للكويت في آب 1990 وعادت وعارضته بشدّة بعد نحو شهر عندما جال خالد بن سلطان على دور الصحف العربيّة مشترياً ومستأجراً.
أما الإعلام العربي اليوم، فهو خاضع بمجمله لآل سعود وآل الحريري وتوابعهم وشركائهم. وعندما وقعت الواقعة بين القذافي والملك عبد الله، صدرت الأوامر؛ بدأ الإعلام السعودي، وخصوصاً ذلك الذي يدّعي الليبرالية، بهجاء القذافي. كيف يجرؤ زعيم عربي على مهاجمة خادم الحرميْن (والملك السعودي لا يتوقف عن خدمة الحرميْن، حتى عندما يستدعي قوات خاصة فرنسية لقمع حركة تمرّد، كما حدث عند «التعامل» مع حركة جهيمان العتيبي ـــ أي إن القوات الخاصة الفرنسية ساعدت الملك السعودي آنذاك في خدمة الحرميْن)؟ وحازم صاغيّة، عميد اليساريّين العرب السابقين، يتنقّل بين نقد النظام السوري ونقد النظام الليبي. والأمير خالد بن سلطان يسمح ـــ يا للحرية الإعلامية ـــ بانتقاد بشار الأسد والقذافي. وعبّر صاغية أخيراً عن أسفه لأن النظام الليبي لم يُقلب بعد.
ضرب أخماساً بأسداس حسرةً وحزناً. ويمكن أن تكتملَ فرحة صاغية إذا تغيّرَ النظام في سوريا (عبر انتقال الحكم فيه إلى رفعت الأسد مثلاً) وفي ليبيا (عبر جبهة من الإسلاميّين المدعومين من أسرة السلفيّة الوسطية التي ينادي بها خوفاً من سلفيّة أشد خطراً). عندها فقط تسود الحرية والديموقراطية والمساواة في العالم العربي كلّه. من حقه، ومن حق الليبراليّين العرب، أن يحلموا بعالم عربي يسيطر عليه بالكامل آل سعود. عندها فقط يكتمل عقد التحرير، وتكسرُ المرأة العربيّة قيدَها.
لكن العقيد سبقهم أو لحقهم. عرفَ أصول اللعبة أكثر من غيره. هو، خلافاً لذلك المثقف العربي الذي دعا أمام جمهور في مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، أي الذراع الفكرية للوبي الصهيوني، كلّ الشعب العربي إلى «تشرّب» عقيدة بوش، توصّل إلى اكتناه المعادلة التي تجعل من دولة ما حليفاً مُكرّماً لدى الإمبريالية الأميركيّة.
الزعيم المُنصّب الذي كان يطلق الشتائم في حق أميركا ويقود الجماهير المغلوبة على أمرها في هتافات حماسيّة ضدها، تيقّنَ أن التحالفَ مع أميركا لا يتناقض مع المحافظة على ذلك النموذج الفريد في شعاراتِه وألفاظِه من التسلّطيّة.
حافظ على جماهيريّته، مقابل الانصياع الكامل لأميركا. تقول مقالاتٌ صحافية أميركية إنّ العقيد سمحَ لوفود عسكريّة واستخباراتيّة أميركية بالتجول في أكثر المواقع سريةً في البلاد. وتطوّعَ لأن يصبحَ مُخبراً عن التنظيمات التي كان يدعمُها بالمال والسلاح.
لم يشك العقيد لحظة برياء الخطاب الأميركي عن الحريّات والديموقراطية. رأى ذلك المشهد للرئيس الأميركي يمشي يداً بيد مع الملك السعودي. تشجّع على المضي في الانضمام إلى الحلف المتسع لوكلاء الدولة العظمى. لا حلفاء حقييقيّن لأميركا، إذ إنها تسمح فقط بوجود وكلاء، باستثناء نادر الحريري وأمين الجميل اللذيْن تكنّ لهما الإمبراطورية الأميركية كثير الاحترام والتقدير.
يجب أن لا نبالغ في فرادة العقيد. فكل طاغية عربي حالة فريدة في ذاتها. هناك رئيس أبدي ينفي أنه يعدُّ ابنَه للرئاسة في الوقت الذي يعدّ ابنَه لخلافتِه. الكل يريد إنشاء سلالة حاكمة، على غرار آل سعود وآل الحريري. والطريف في الحالة الليبيّة أن أبناء العقيد يتناتشون الخلافة قبل أن يبدأ الصراع عليها رسميّاً، وهم في ذلك يقتفون أثر ابنيْ هارون الرشيد؛ فسيف الإسلام القذافي يتصادم، على ما روت مجلة «الإيكونوميست» الرصينة، مع أخيه المعتصم القذافي الذي يسيطر على أجهزة الأمن.
يريد سيف الإسلام أن نراه ديموقراطياً، كما أصبح سمير جعجع ديموقراطياً. لمَ لا؟ لكن العقيدَ منصرفٌ إلى ما هو أهم. فقد حاز لدى قبائل أفريقيّة مأجورة لقب «ملك الملوك». أي إن الضابط الذي قاد انقلاباً ضد الملكية تحوّلَ إلى ملك الملوك (وهي ترجمة لكلمة شاهنشاه الفارسيّة). وقد ينتشر اللقب في أرجاء العالم العربي فتنعم المنطقة ببحر من ملوك الملوك. إنه عصرٌ جديد، فلننعم به ونفتخر.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)