اقتحم الساحة الأدبيّة في الخمسينيات، وراح يكتب عن بشر مذعورين، يرزحون تحت وطأة استبداد تاريخي في مدينة كابوسية تنتهك إنسانيتهم. أعماله مترجمة إلى لغات عدّة، لكنّه غير قادر على العيش من أدبه. «المهم هو فنّ إدارة المعارك مع الحياة». هكذا، يلخّص الرحلة الطويلة التي قطعها من صبيّ الحدادة من حيّ «البحصة» الدمشقي إلى أوكسفورد

خليل صويلح
كأنّنا نجلس أمام حكواتي دمشقي في أحد المقاهي الشعبية. لكنه بدلاً من أن يروي حكايات الانتصارات والبطولة، يحيلنا فوراً إلى أبطال مهزومين، يبحثون عن نسمة هواء، خارج الأقفاص التي وجدوا أنفسهم وراء قضبانها. ذلك أنّ الحياة لدى زكريا تامر حكاية محزونة، ولهاث محموم وراء الخبز والحرية.
الحدّاد الذي خرج من حيّ «البحصة» الدمشقي، ذات يوم بعيد من خمسينيات القرن الماضي، ليقتحم الوسط الأدبي كإعصار، سرعان ما فرض مكانه كاتب قصة من طراز خاص. قصصه عن بشر لم يجدوا مَن يكتب عنهم بكل هذا الألق والاحتجاج والغضب. بشر مذعورون تحت وطأة استبداد تاريخي يمتد قروناً إلى الوراء، في مدينة كابوسية تنتهك إنسانيتهم. يكاد يكون كافكا عربي اليد واللسان، يميط اللثام عن الألم البشري بكل جحيميته وآثامه وخطاياه، في لغة خشنة وعنيفة، لكنها مثقلة بالشاعرية، تقارع العنف والخنوع والحرية والقمع بسرد حار وآسر.
لكنّ صاحب «دمشق الحرائق» يرفض لقب «شاعر القصة القصيرة». ويقول «الشاعرية التي تكتسي بها قصصي، لها علاقة بعمق التعرية للحالات التي تخضع للتشريح، فكلما كنت عميقاً وصادقاً في كتابتك، تقترب من الشاعرية أكثر». ويضيف موضحاً «العنف في قصصي ليس بضاعةً مستوردة أو نزوة أو عقدة نفسية، أو نوعاً من الإثارة والتشويق، إنّه فقط تعبير عن حياتنا اليومية، فنحن نعيش في عالم مفترس سفّاح لا يمنحنا سوى السجون والخيبة ويجللنا بالهزائم».
في مطلع الثمانينيات، حين كانت البلاد ملبّدة بالغيوم السوداء والسخط والخوف، لم يجد ما يكتبه في افتتاحية مجلة «المعرفة» التي كان يرأس تحريرها ليعبّر عن واقع الحال، سوى أن يختار مقطعاً من «طبائع الاستبداد» لعبد الرحمن الكواكبي، وكانت النتيجة أن مُنع من الكتابة على الفور، داخل سوريا وخارجها. يقول متذكراً تلك الفترة: «أنا شخص لا يستطيع الحياة يوماً واحداً من دون كتابة... وجدتُ نفسي مضطراً إلى مغادرة البلد كي لا أختنق». اختار صاحب «صهيل الجواد الأبيض» مدينة أوكسفورد كي يبدأ حياة أخرى «لكنني أخذت الشام معي بناسها وحواريها ورائحة أشجارها، وما زلت أكتب عن ناس بلدي إلى اليوم، ولم أكتب قصة واحدة أبطالها يعيشون خارج بيئتهم الأولى، لأنني ببساطة لم أغادر دمشق لحظة واحدة».
هناك استبدل بضجيج المقاهي وزحام الشوارع، هدوء القطار الذي يذهب من أوكسفورد إلى لندن: «كانت الرحلة في القطار تستغرق نحو ساعة ونصف، ما يكفي لكي أكتب قصة أو قصتين. أما في المنزل فإنني لا أستطيع الكتابة وراء مكتب». في أوكسفورد، تعلّم قيمة عدم تبديد الطاقة. كان يبدد طاقته بالحكي والثرثرة في المقاهي ومع الأصدقاء، كما يقول، قبل أن يكتشف أن الكاتب «مثل ملاكم ينبغي أن يجيد فن تبديد الطاقة بلكمة صائبة، وألا يشعر أنه قد توصّل إلى الكمال. ففي ذلك يسير بخطى حثيثة إلى متحف زاخر بالجثث المحنّطة».
في زياراته إلى دمشق، لم يستطع زكريا تامر أن يتآلف مع المدينة بعدما تغيّرت صورتها القديمة، وازداد التلوث في هوائها (هل هو مجاز آخر؟). يجيب «لا. ولكن لدي مشكلة مزمنة في صدري، تمنعني من السكن في المدينة، لذلك اخترت ضاحية «قدسيا» للإقامة فيها خلال الإجازة». نمضي معاً إلى مقهى شعبي في حي «سوق ساروجة» وسط دمشق. يتوقف في الطريق متذكراً أسماء الحارات القديمة التي نشأت مكانها أبراج عالية وفنادق ومكاتب. يشير بيده إلى «البحصة التحتانية». هناك كان معمل الحدادة الذي كان يعمل فيه (مكان المستشارية الثقافية الإيرانية الآن)، وبالقرب منه بيت العائلة القديم.
بعد صحن من الفول والشاي المخدّر، تتفتح الذاكرة وتنهال الحكايات عن أدباء لطالما بدّلوا مواقعهم، ومواقف فضائحية ارتكبها مبدعون «طليعيون» في علاقتهم السرّية مع السلطة ومواهبهم في «كتابة التقارير» ضد زملاء لهم. قبل أن يعرّج على الفترة التي أسهم فيها مع زملاء آخرين في تأسيس «اتحاد الكتّاب العرب» وإطلاق مجلة «الموقف الأدبي». يقول: «كنت أسعى إلى اكتشاف الأصوات الجديدة، لأنّني لا أحب النجوم، وهو ما سعيت إليه لاحقاً في مجلة «الناقد» التي صار لها آباء كُثر بعد احتجابها».
يصمت صاحب «الرعد» قليلاً، ثم يقول «ضجرت من كل شيء، فأنا أحياناً لا أرغب برؤية أحد، أعتكف في البيت أياماً، من دون أن أعمل شيئاً، وفي أحيان أخرى، أنخرط في الكتابة بما يشبه الحمّى. كتبت قصص «سنضحك» خلال شهر ونصف، في القطار بين أوكسفورد ولندن. المهم أن يكون لديك فكرة، ففي الكتابة لا وصفة جاهزة، ربما تأخذك الجملة الأولى ــــ شرط أن تكون صحيحة وجيدة ــــ إلى أماكن لا تتوقعها على الإطلاق».
من المطرقة والسندان في «وطن من الفخّار» إلى الكتابة على الكمبيوتر، مسافة طويلة قطعها زكريا تامر كي يتآلف مع حياته الجديدة «أكتب الأسطر الأولى على الورقة، ثم أكمل على الكمبيوتر، وإذا بالسطر يتحوّل إلى صفحة أو أكثر». في تجواله على شبكة الإنترنت، يتابع ما تكتبه الصحافة العربية والأجنبية عنه. ولطالما اكتشف قصة مترجمة له، هنا أو هناك، من دون علمه: «تُرجمت أعمالي إلى أكثر من عشر لغات، لكن المردود المادي ضئيل، ومن النادر أن يحصل المبدع العربي على حقوق نشر كتبه، سواء في بلاده أو خارجها. الناشرون يشكون من قلة القراء كي لا يدفعوا للكتّاب حقوقهم. وفي المقابل يسعد الكاتب حين تنتشر أعماله في مختلف أنحاء العالم». ويستدرك: قصص «تكسير ركب» صدرت أخيراً عن دار «غارنت» في لندن، وهي كانت الأكثر مبيعاً خلال شهر تموز (يوليو) الماضي. المسألة كما ترى، معنوية فحسب».
حين اختارته لجنة جائزة العويس لجائزتها قبل سنوات، كان تعليقه «مشكلة الجوائز العربية أنها تأتي في أرذل العمر». وهو ما زال عند رأيه: «ماذا يفعل الكاتب بعد أن يتجاوز الستين بجائزة مالية كبيرة؟ سوف يصرفها على الأطباء والمشافي والأدوية». رغم ذلك لم يتمكن زكريا تامر من شراء منزل في دمشق، وهو ليس سائحاً في بلاده، كما يقول، ولكنّه لا يحب الاستقرار «المهم هو فنّ إدارة المعارك مع الحياة».


5 تواريخ

1931
الولادة في دمشق
1944
ترك الدراسة ليعمل حدّاداً
1960
صدور مجموعته القصصية الأولى «صهيل الجواد الأبيض»
1981
الاستقرار في لندن
2000
فاز بجائزة «سلطان العويس»
في القصة القصيرة مناصفةً مع الكاتب المصري محمد البساطي