لا تزال ذاكرة شوارع بيروت، التي اختبرت منذ أشهر حرباً قاسية، تئنّ تحت وطأة ما جرى. فبين المصالحة السياسية ومصالحة الناس بَون شاسع، لا يكفي لاجتيازه عبور الأمتار القليلة بين «طريق الجديدة» و«بربور» أو «الشويفات» و«حي السلم»
راجانا حمية ومحمد محسن
بين المصالحة السياسية ومصالحة الناس على الأرض مسافة لا تحسب بالأمتار القليلة الفاصلة بين «ضفتي» كورنيش المزرعة. هنا «الطريق الجديدة» ومقابلها «بربور». تبدو المسافة طويلة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار منسوب الحقد الذي لاحظناه في جولة ميدانية، بين سكّان المنطقتين.
في طريق الجديدة، تحتاج المصالحة إلى وقت طويل. تقول أم خالد الحلبي «نستطيع أن نسامح عندما تنشف مياه قبر الميّت»، تقولها وهي تشير إلى آثار الرصاص الظاهر على جدران منزلها.
«صعبة»، هي الكلمة الأخرى في المنطقة التي تختصر الجواب. محمّد عبد العال، لم يحتج إلى وقت طويل للإجابة. قبل أن ينتهي السؤال، انفجر ضاحكاً «حوار؟ هيدي تجليطة. صعبة على شخص قُتل أخوه أن يضع يده بيد القاتل». لكن، سرعان ما يسكت، ليتفحص السائلة وهو يسأل «من أيّة منطقة قلتيلي؟ ولاي مؤسسة عم تشتغلي». هنا، الداخل إلى المنطقة، هو دخيل. لا يمكنه أن يُكمل جولته بدون الإدلاء بتلك المعلومات لـ«شباب الحيّ»، المكلّفين مراقبة الغرباء.
انتهى «التحقيق» بعد انتحال صفة مؤسسة بحثية. لكن لا يبدو أنّ السؤال نفسه كان مرحّباً به، فـ«الواقعة وقعت، خلص لشو التفاصيل؟»، بحسب خالد عيتاني. غير أنّه سرعان ما يدخل في التفاصيل «من الآخر، السنّي لم يعد قادراً على الوثوق بالشيعي»! وهل هناك عائلات شيعيّة في المنطقة؟ وماذا حلّ بها؟ هل غادرت؟ «ليش بناكل عالم ليفلّوا؟ يقول عيتاني، غالبيّة السكّان هربوا خلال الأحداث، ثمّ عادوا. والشيعة هنا يعيشون مثلنا، لكن لا نتدخّل بهم».
«نحن» و«هم»، هكذا بات اسم «السنّة» و«الشيعة» هنا. حتى الفلسطينيون غير قادرين على العودة إلى ما قبل أيّار. عمر عكيلة، الشاب الفلسطيني الذي تولّى طيلة الجولة مراقبتي، تمنّى «لو أنّ الشيعة يتركوننا نحنا السنّة ببعضنا». عكيلة مستعدّ لحرب جديدة كي ينتقم «من شيعة حركة أمل، الذين ذبحوا أبناء المخيّمات».
على بعد عشرات الأمتار من «الطريق الجديدة»، يقع شارع «بربور». لا تقبل سيّارات الأجرة الذهاب إلى المنطقة الأخرى مع أنها تقريباً ملاصقة. كان يجب أن أعود إلى .. مستديرة الكولا، لأخذ سيارة. دقائق وتحطّ في بربور.
هنا اختلفت الإجابات. كان من المفترض أن يكون محمد قليلات في غير هذا المكان، فوجوده في «بربور» المحسوبة على «الاستاذ» أي رئيس مجلس النواب نبيه بري، «قد لا يكون محبّذاً» كما يشير إلينا. لكن، ما يمنع قليلات من الرحيل «المحلّ والشارع اللي وُلدت فيه». ويعتب قليلات «على الهجمات التي قام بها البعض على أهل بيروت السنّة». لكن، مع هذا العتب، يرى «أنّه لا حاجة إلى المصالحة، كلّ ما في الأمر شويّة زعل يزول مع الوقت». أمّا كاظم عيسى، جار قليلات، فلا يبدو من حديثه أنّ ثمّة ما حصل في بربور قبل بضعة أشهر. ويقول «الحمد لله لم يحصل شيء مزعج، باستثناء رشقات الرصاص التي يمكن أن نطلقها ابتهاجاً، ثمّ إننّا إخوة، وكلّ ما في الأمر خلافات سياسيّة بين الزعماء».
لكن، كما في طريق الجديدة، كذلك في بربور. فالقاطنون هنا، ليسوا جميعاً من رأي عيسى. إذ إنّ المتأثّرين من الأحداث الماضية، يعرفون «أنّ القلوب لن تصفى بمجرّد الدعوة للحوار». هذا ما يقوله محمّد، الذي يخاف ذكر اسمه كاملاً «خوفاً من حركة أمل، يمكن ترجع تكسّر البيت». محمّد، من سكّان بربور، ولكن سكنه لم يسعفه خلال الأحداث، فلمجرّد «أنّني سنّي رشقوا منزلنا بالرصاص، فكادوا يقتلوننا». واليوم، لا يأمل محمّد بالمصالحة، فهو لم يتخلّص بعد من حقده على شباب حارته «الذين يمطرونني في كلّ يوم بالشتائم التي تطال سيّدنا عمر والشيّخ سعد، كلّه لأنّي سنّي».

حوار آخر على حدود «التيرو»

لا تشي ابتسامات اللبنانيين الشاحبة التي يقابلون بها بدء الحوار الوطني، بارتياح أكثر مما أنها من باب التفاؤل والرجاء لا أكثر. فاستدارات السياسيين لا تجد فورياً ترجمتها في حياة طبيعية تدبّ في أوصال المناطق «المتقابلة»، وهذا شيء يعرفونه جيداً.
يفصل «شارع التيرو» بين منطقتي حي السلّم والشويفات، وفي المنطقتين كان للأحداث الأخيرة وقعها الخاص في النفوس. تأتي كلمة «ولكن» بعد كلّ جملة تتحدّث عن التقارب من جديد. أربعة أشهر مرّت على 7 أيار ومعركته القاسية هنا، حصل الكثير خلالها على مستوى العلاقات بين أهالي المنطقتين، لكن لا يبدو أن «الحوار الوطني» الذي يبدأ اليوم بطبعته الثانية، سيغيّر في الأمر شيئاً. فالمواطنون هنا أجمعوا على عدم تجريب «شيء مجرّب».
اللافت أنّ التباين موجود بين أهل المنطقة الواحدة لجهة الرغبة بالمصالحة، لكنّه يتلاشى حين «تحزّ المحزوزية»، فيعودون للاصطفاف. يعمل محمد حايك «سائق فان» على خط الدورة ـــ التيرو، وهو يسكن في حي السلّم منذ زمن بعيد. يؤكد حايك أنّ الأمور عادت لطبيعتها، فيتحدّث عن أصحاب له عادوا منذ فترة إلى مساكنهم في الشويفات، في المقابل فإن «الدروز الثمانية الذين يعملون معنا على الخط، عادوا إلى العمل»، مشيراً إلى صداقة تربطهم بالسائقين الآخرين. لا يطمئنّ ابن حي السلّم إلى الحوار الذي يبدأ اليوم، مع أنّه «أفضل من المشاكل». يرتبك حين يتكهّن بأجوبة الطرف الآخر عن الأسئلة ذاتها، وينصح بعدم التوجه إلى أبعد من مفرق دير قوبل، «خلّيك عالخط العام».
في الجهة الثانية، يشير وائل الجردي إلى «كره متبادل» مع أهالي المنطقة المقابلة، مؤكداً أن ما سيمحوه هو الوقت لا المصالحات السياسية. يشير الجردي إلى توقّف التجارة بشكل كبير مع أهالي حي السلّم، ويبني على قاعدة «ما بنّفعوا غير بعضن، ونحن كمان نفس الشي». العلاقات الاجتماعية تأثّرت أيضاً. يصفها الجردي بالباردة و«البروتوكوليّة».
يرخي التنوّع السياسي بظلاله في منطقة الشويفات، فالبعض يتحدّث عن رغبة في المصالحة، والبعض الآخر يؤكد أنّ الأمور ليست بسيطة. يذكّر وائل الجردي أنّ حرب الجبل «أخذت عشرين سنة حتى نسيناها»، لكنّه لا يقارنها بالأحداث الأخيرة فهي «أخف بكتير». ثم يبتسم ويتحدّث عن رغبة موجودة عند الطرفين بالمصالحة، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ الاصطفاف يعود طائفياً على الفور عند أيّ إشكال جديد، «حك أيّ شخص وشوف كيف بيتصرّف معك».


الهرب من السنة والشيعة