كمال خلف الطويل *هناك من السنوات الفارقة في حياة البشرية ما قد يفوت لحظها حينها، أو حتى بعد حين. ثم تأتي لحظة فارقة لاحقة، قد تبعد أو تقرب، لتشير إليها بالبنان لقدر ما يجمعهما من قسمات، وما يحملانه من إشارات وازنة... بحسم. كان الطور الأخير من الحرب الباردة (1947ـــ1999)، الذي دشنه الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان مع وصوله إلى السلطة مطلع عام 1981، أكثر أطوارها اضطراماً وتدافعاً، وأشدها مكراً ودهاءً. فيه خاضت الولايات المتحدة سباق تسلح مرهق التكاليف أصابها بوهن وخيم، نلمس الآن آثاره، لكنه، بالمقابل، ألحق عطباً قاتلاً بالاتحاد السوفياتي سرّع في انهياره بفعل موات متراكم الدواعي.
لكن الخميرة الفاعلة التي أوقدت تفاعلات الكيمياء المدمرة حتى منتهاها، كانت انخفاض سعر النفط عام 1986 إلى 6 دولارات فقط، سقوطاً من ذروة 40 دولاراً التي وصلها عام 79 إبان اشتعال الثورة الإيرانية.
حينها، صدر أمر الباب العالي في واشنطن لتابعيه في الجزيرة، آل سعود، بإغراق السوق العالمية بنفطها، عبر إيصال إنتاجها إلى سقف القدرة، أي 10 ملايين برميل يومياً.
صدع آل سعود للأمر، الذي نقله نائب الرئيس حينها جورج بوش الأب لفهد، من فورهم، وارتضوا أن يلحق الركود الاقتصادي ببلدهم ما دام الأهم هو إفلاس ألدّ عدوّين لهم، ولسيّدهم، وهما الاتحاد السوفياتي وإيران.
ابتغت الولايات المتحدة حينها مضاعفة أثر سباق التسلح بإفراغ خزائن الدولة السوفياتية من ريعها النفطي سعياً لإيصالها لحافة السقوط... وقد كان.
بدأ غورباتشوف منذ مؤتمر الحزب في ربيع 86 بإطلاق إشارات الاستسلام المغلّف بالخفر والحياء، ثم ما لبث أن خلع كل ما يستر بدنه عند مفصل الثمانينيات والتسعينيات.
أما إيران، فإضافة إلى تأثير قصف الطيران العراقي المستمر لمرافقها النفطية، أودى «وقوع» سعر النفط ذلك العام إلى إملاق الدولة وتلاشي قدرتها على إدامة الحرب مع العراق طلباً للنصر فيها، ومن ثم شرب الخميني كأس السم بعدها بعامين موافقاً على وقف الحرب.
ما أشبه الليلة بالبارحة. والحاصل أنه تتجمع الآن شواهد ونذر صعود المدرج ذاته، لا سيما أنّ الولايات المتحدة مثخنة بجراح شبه مميتة، لجهة اقتصاد مترنح وخزانة خاوية وديون «متلتلة» وتجارة «عاجزة».
على خلفية أوضاع هشّة كهذه، تصبح السبل الرخيصة لخوض الصراع هي الأكثر جاذبية... على الأقل لجهة التجريب والمحاولة.
ولما كان الهدف مزدوجاً الآن، كما حينها، أي روسيا وإيران، فعزّ الطلب إصابتهما في مقتل، وعبر أعزّ ما يملكان: الطاقة.
كيف السبيل لذلك؟ عبر سبل ثلاثة تفعل فعلها في آن:
1ـــ رفع معدلات الفوائد الأميركية: وسطيّها الآن 2%، وعليه أن يتضاعف قرابة مرات خمس إلى حدود 10%.
لماذا؟
أـــ للتسبب ببعض انكماش في الاقتصادين الصيني والهندي، وهما المستهلكان المتعاظمان للطاقة... وإذا علمنا أن انخفاض الاستهلاك العالمي بنسبة 2 إلى 3% يفضي إلى خسف سعر النفط للنصف، أي 60 دولاراً، لأدركنا مزايا رفع الفائدة.
ب ـــ لاجتذاب المزيد من الرساميل العالمية للاستثمار في سوق السندات الأميركية، بما يعنيه من عودة الروح للدولار كعملة عالمية سيّدة، علماً بأن سعر 60 دولاراً للبرميل يحتفظ بجاذبية الاستثمار في الجرف القاري كمصدر بديل للنفط.
ج ـــ ثم إنه، والولايات المتحدة في خضم ركود تضخمي ـــ Stagflation ـــ سيأتي رفع الفائدة ليكسر ظهر الجانب التضخمي، وهو الذي تفوق أولويته تلك المتعلقة بالركود.
2ـــ رفع سعر المشتقات النفطية (البنزين والكيروزين) إلى المستوى الأوروبي، أي حوالى 8 دولارات للغالون، وما من شك في أن ذلك سيتكفل بخفض استهلاك الطاقة بشكل مؤثر.
السؤال: هل ذلك ممكن سياسياً؟ والجواب أنه ممكن شرط أن تقابله خفوضات ضريبية ملموسة على دخول الطبقتين الوسطى والفقيرة.
3ـــ السماح باستخراج النفط من السواحل وألاسكا، وهو عامل مساعد وليس حاسماً بذاته.
لا تشترط سياسة ثلاثية القوائم كهذه، بالضرورة، إدارة «ديموقراطية» في البيت الأبيض، وإن كانت أكثر احتمالاً معهم وبهم، لا سيّما أن جهابذة حزب الحرب الحاكم (العابر للحزبين) يمنّون أنفسهم بضربة مزدوجة ينتهون بها من كابوسين جاثمين. واحد كوني، والثاني إقليمي... دون شديد عناء.
ما الذي سيردّ به الكرملين عند إحساسه بما هو قادم أو قائم؟ بما وسعه الجهد والمكر.
إن أرادت واشنطن النزول بالسعر إلى النصف، فما أحرى موسكو أن تجابه ذلك بما يوتّر الأجواء ويكفل العلو عند مستقره: حدث أمني كبير. اشتباك عسكري حساس. ضربات في البطن الرخو... أي الأمن... أو انعدامه.
موسكو هذه المرة ستحمي انبعاثها الجديد، وليست في وارد التفريط بوعد المستقبل، وموعدها معه.
هنا الفارق بين 1986، فيما الضعف والخنوع سمتا صانع قرار الكرملين، وبين 2009، وملامح مسيرة من في سدّته قاطعة في صلابتها وجسارتها وتصميمها.
والأيام شواهد.
* كاتب عربي مقيم في الولايات المتحدة الأميركية