إسكندر منصور *تمثّل المؤتمرات الحزبيّة عادة، فسحة تأملّ ومراجعة ونقد وتقييم، وأحياناً محاسبة. من خلالها يغادر الحزب سياسات معيّنة أثبتت التجربة فشلها، ليُحلّ محلّها سياسات جديدة لم تخضع للتجربة بعد، لعلّها تكون ناجحة.
إذاً فالمؤتمرات محطات ضروريّة في حياة المنظمات السياسيّة، من خلالها تجري مراجعة للفكر والممارسة، وعلى ضوء المراجعات والنقاشات، يمارس النقد ويعاد رسم الخطوط السياسة تبعاً للوقائع الجديدة للسنوات المقبلة.
وكما تشرق في المؤتمرات وجوه جديدة، تغرب أيضاً وجوه معروفة وناشطة. بعض المؤتمرات تمثّل محطات فاصلة في حياة الأحزاب والأوطان. هكذا قيل عن المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني. كذلك المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفياتي الذي خطا أولى خطواته اليتيمة دون أن تليها خطوات أخرى للقطع مع الستالينيّة.
المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي اللبناني سيُعقد في كانون الثاني المقبل؛ تاريخ ليس ببعيد، ووثائق المؤتمر، وإن كانت عناوينها معروفة، فما تزال ضمن الجدران لا يحق للمواطنين القرّاء مسح الغبار عنها.
ما هكذا عوّدنا الشيوعيّون مع مؤتمراتهم ونقاشاتهم السابقة؛ على الأقل منذ المؤتمر الثاني. كانت النقاشات تجري على صفحات الجرائد، ووثائقهم كانت بمتناول القارئ؛ فكان المؤتمر حقاً ورشة فكريّة وسياسيّة يتابع أخبارها اليساريّون من كل المنابع، ويشاركون في النقاشات العامة، إن كان من خلال المقالات أو الندوات أو المقابلات الإذاعيّة.
كان المؤتمر حدثاً في الحياة السياسيّة والفكريّة والثقافيّة. هكذا كان. مع اتفاق الطائف، قرّر الحزب الشيوعي كسر الجدار والحواجز التي فُرضت على اللبنانيين ومنعتهم من التواصل؛ فاختار الحوار سبيلاً وخطا أولى الخطوات في هذا الطريق. كان ذلك خروجاً عن النصّ الذي صاغته الوصاية السوريّة والذي حدد سلفاً موضوع الحوار وهويّة المحاورين.
بعد 15 سنة على دخول لبنان عصر الوصاية و«الاستقرار»، جاء اغتيال الرئيس الحريري وكوكبة من رجالات الفكر والسياسة والصحافة (ضمنهم الأمين العام السابق للحزب الشيوعي الذي طبع بأسلوبه وفكره مسيرة الحزب خلال فترة مهمة من تاريخ لبنان) ليدخل الوطن على أثرها في النفق المظلم والطويل من جهة، وطريق الحريّة والاستقلال من جهة أخرى.
لم يسلم الحزب الشيوعي، الذي كان أصلاً مرهقاً ومنهكاً يفتش عن هويّة جديدة في عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي، من العاصفة، فهوت أغصان السنديانة الحمراء في كل الاتجاهات؛ برزت «حركة اليسار الديموقراطي» و«الحركة اليساريّة اللبنانيّة» و«حركة الإنقاذ»، بالإضافة إلى تيار «المعتكفين»؛ وربما كان المعتكفون هم الأكثريّة. كان هذا إشارةً لانحسار دور اليسار بكل تيّارته على الصعيد الوطني في مرحلة تاريخيّة من حياة لبنان.
إذاً، تدخل المهمات المطروحة أمام المؤتمر العاشر، إن اختار المؤتمرون أن يناقشوها، في البعد الوجوديّ للحزب الشيوعي. أن يكون هناك حزب فاعل واضح في خطه السياسي، علماني الفكر والممارسة، لا يهادن ولا يساوم؛ لا اختزال لوطنيته اللبنانيّة باسم عروبة مصادرة من دول الاستبداد، كما أنه لا تعارض بين وطنيته اللبنانيّة وعروبته المنفتحة الحرة الضامنة لكل مواطنيها على مختلف هوياتهم الدينيّة والقوميّة؛ المقاومة عنده تحرير للأرض من المحتل، والإنسان المواطن الفرد من طائفته والعامل من مستغلّيه؛ أمين لتراثه دون تقديس الماضي وإن كان مشرقاً ومصدر فخر واعتزاز؛ حاضن لليساريين على اختلاف تياراتهم وتأويلاتهم، أو لا يكون. هذه هي المسألة وهذه هي الأسئلة:
1ـــ المسألة الوطنيّة اللبنانيّة: كيف يفهم الشيوعيون المسألة الوطنيّة اللبنانيّة في هذه المرحلة منذ اغتيال الرئيس الحريري وخلال هذه المرحلة؟ وكيف تنسج علاقتها بالقوى الإقليميّة التي لها مع لبنان إما روابط قوميّة أو دينيّة؟
في صلب المسألة الوطنيّة، تبرز العلاقة بين «الوطنيّ» و«القوميّ» التي أعطاها الحزب الشيوعي حيزاً واسعاً من عمله الفكري والسياسي خلال مسيرته منذ نشوئه. كانت الثورة السوريّة الكبرى ومعركة الجلاء والموقف من القضيّة الفلسطينيّة والتحالف مع المقاومة الفلسطينيّة في لبنان والتصدي لمشاريع التقسيم والكونتونات الطائفيّة بكل ألوانها والغزو الإسرائيلي ونشوء جبهة المقاومة الوطنيّة الللبنانيّة في 16 أيلول 1982 على أثر نداء جورج حاوي ومحسن إبراهيم وفترة حكم الوصايّة السوريّة، من معالم المحطات التي برزت فيها مقوّمات الوطنيّة اللبنانيّة من جهة، والعلاقة بين «الوطني» و«القومي» بكل أبعادها من جهة أخرى.
2ـــ كيف يفهم الحزب الشيوعي عروبة لبنان في ضوء ما حمله الفكر القومي العربي بكل صيغه، وخاصة البعثيّة، إن كان في سوريا أو في العراق من خلال الممارسة، من كوارث لكل من القضايا الوطنيّة وللقضايا القوميّة عامة؛ وفي ضوء التزامات لبنان تجاه القضيّة الفلسطينيّة. ما هي تصورات الحزب الشيوعي في ضوء النقاش الجاري عن آفاق العلاقة اللبنانيّة السوريّة؛ وخاصة في ظلّ مقاربتين متطرفتين. الأولى تجعل من سوريا بلداً معادياً والثانيّة ما زالت تحنّ إلى زمن الوصاية وربما إلى عودتها.
3ـــ كيف ينظر الحزب الشيوعي إلى مسألة «السيادة» ودور الدولة والنقاش الجاري بشأن سلاح المقاومة ودوره الحاضر والمستقبلي، وخاصة في ظلّ تقاعس الدولة التاريخي عن القيام بمهمة الدفاع عن أرض الوطن وقراه ومزارعيه من جراء الاعتداءات الإسرائيليّة المستمرة منذ مجزرة حولا سنة 1948 وحتى اليوم؟ وأيضاً في ظلّ استمرار الاحتلال الإسرائيلي لجزء من الأرض اللبنانيّة. بكلمة أخرى، لو كان الحزب الشيوعي مدعواً إلى طاولة الحوار، ما هو موقفه ورؤيته لما بات يعرف بالاستراتيجيّة الدفاعيّة.
4ـــ جاء اجتماع الدوحة ليؤكد أنّ مصالح الطوائف اللبنانيّة وممثليها في إعادة إنتاج هيمنتهم من جهة، ومصالح الوطن والمواطنين وطموحاتهم من جهة أخرى، ليست واحدة بل متضاربة متناقضة. في الدوحة قرّروا اختيار الطائفة على الوطن والمواطن، وعادوا خطوات إلى الوراء في تبنيهم قانون انتخابات 1960.
كان موقف الحزب الشيوعي من اتفاق الدوحة واضحاً وسليماً. إذاً كيف يرى الحزب الشيوعي الانتخابات النيابيّة المقبلة ومسألة التحالفات؟ هل ما زالت الصيغ القديمة للتحالفات الانتخابيّة مفيدة؟ ما هو موقف الحزب مثلاً من التعاون مع الوجوه اليساريّة المستقلة ومن إعلان مرشحين في أكثر الدوائر على قاعدة إصلاح النظام الانتخابي والعلمنة وسياسة اقتصاديّة معارضة للخصخصة (كلمة السر بين المعارضة والموالاة)، في صلبها تشجيع الإنتاج الوطني ودعم المطالب العمالية؟
في هذا الصدد، وبالرغم من موقف الجنرال عون الوطني والصحيح خلال عدوان تموز، أين أصبحت ورقة التفاهم مع التيار الوطني الحرّ بعد اتفاق الدوحة، حيث كانت العلمنة والنظام الانتخابي النسبي أهم بنودها؟
5ـــ لقد برزت منذ أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، مقولات تدعو للتعاون والتحالف الماركسي ـــ الإسلامي، ليس فقط على قاعدة التصدي للإمبرياليّة، بل أيضاً لما يحمله «الإسلام» من روح ثوريّة منفتحة على التغيير الاجتماعي باتجاه العدالة الاجتماعيّة. فكتابات علي شريعتي في مرحلة ما قبل الثورة في إيران، وحسن حنفي في مصر الذي لاحقاً أصدر مجلة «اليسار الإسلامي»، مثّلا خطوة فكريّة في هذا الاتجاه، ما لبثت أن خمدت على أرض الواقع بعد نجاح الثورة في إيران وتهميش القوى اليساريّة والليبراليّة التي كانت في صلب الإعداد للثورة والقيام بها لمصلحة استئثار التيار الديني بجناحه الخمينيّ بالسلطة، والسير في طريق «أسلمة» الدولة والمجتمع.
أما في لبنان، فالعلاقة اليساريّة مع التيارات الإسلاميّة لم تكن أفضل من التجربة الإيرانيّة. فكانت نتيجتها عشرات الشهداء في طرابلس على يد حركة التوحيد الإسلامي واغتيال قادة ومفكِّرين، بالإضافة إلى تهجير مئات العائلات على أثر الصراع الشيوعي ـــ «الشيعي». على ضوء هذه التجارب، ما هي أسس العلاقة مع حزب الله وآفاقها حاضراً ومستقبلاً؟ وكيف ينظر الحزب الشيوعي إلى أصوات المحذّرين والحذرين من تلك العلاقة من جهة، على قاعدة أنها تخدم في النهاية ركناً أساسياً في النظام الطائفي، وحتماً ستكون على حساب اليسار كما جرى في إيران أو في الجزائر أو في مصر خلال فترة عبد الناصر، أو العراق وسوريا خلال دخول اليسار الجبهات الوطنيّة مع حزب البعث؛
والمشجعين لها من جهة أخرى على قاعدة أولويّة المقاومةودورها في الدفاع عن لبنان في وجه الاعتداءات الإسرائيلية المستمرّة. بكلمة أخرى، هل العلاقة بين اليساريّة والحركات الإسلاميّة باتجاهاتها المختلفة مرشحة للتدهور أم للتحسنّ، وعلى أي قاعدة؟ كيف يرى الحزب الشيوعي المستقبل على ضوء تجارب إيران والعراق وفلسطين ولبنان؟
6ـــ لقد بدأ الحزب الشيوعي اللبناني تحت اسم حزب الشعب اللبناني، ثم ما لبث أن استقرّ على اسم الحزب الشيوعي كترجمة لعلاقته مع الكومنترن، ولكونه جزءاً من الحركة الشيوعيّة العالميّة. لقد سقط البناء فكراً وشكلاً وبرنامجاً بعد تجربة غنيّة من عمر الإنسانيّة؛ فيها المشرق والمضيء وفيها الحالك والمظلم.
كان الحزب الشيوعي اللبناني جزءاً من هذا المشروع الذي اتخذ من موسكو قبلة له بفكره واسمه وتجربته؛ ومع زوال الاتحاد السوفياتي، وعودة موسكو إلى كنف الأرثوذكسيّة، كان لا بد من سؤال مشروع عن هويّة الحزب الشيوعي اللبناني الجديدة، وعما إذا كان من ضرورة للعودة إلى الاسم الأساس كتعبير عن مرحلة جديدة في عالم شبه جديد.
فمن وجهة نظر الذين يودّون العودة إلى «حزب الشعب اللبناني»، فهذا ليس تنكّراً لمرحلة نضاليّة طويلة ومشرقة من تاريخ لبنان والعرب حمل لواءها الشيوعيون، عمالاً ومثقفين وفنّانين وطلاباً ومقاومين، من خلال الحزب الشيوعي اللبناني، بل لما تمثله أولاً فكرة «حزب الشعب اللبناني» من انتماء أصيل إلى التراث النضالي اللبناني، إن كان عبر نضالات فلاحي لبنان وانتفاضاتهم في وجه الإقطاع في القرن التاسع عشر، أو نضالات عمال لبنان الذين احتفلوا بعيد أول أيار سنة 1907 في «الروشة» ببيروت، ومن ثمّ بدعوة من حزب الشعب اللبناني سنة 1925 أو عبر الروّاد الذين أسسوا أول نقابة في تاريخ لبنان. إنها العودة إلى المستقبل. وثانياً: إن فكرة «حزب الشعب اللبناني» تعبّر عن طموحات الشعب اللبناني وهمومه بأكثريّة فئاته من طلاب ومثقفين وموظفين ومهاجرين «مؤقّتين»، وإن كانت الطبقة العاملة المنتجة وهمومها ومصالحها تبقى أساس برنامجه.
أما وجهة نظر الذين يتمسّكون باسم الحزب الشيوعي اللبناني، فيؤكدون الالتزام بقيم الشيوعيّة السامية وأهدافها نحو الحريّة الإنسانيّة، ويفصلون ما بين النظريّة والتطبيق. كما يؤكدون الأمانة لتراث الحزب الذي تحت رايته ناضل الكثيرون وسجنوا واستشهدوا من أجل الاستقلال الوطني وحقوق الطبقة العاملة، ومن أجل جامعة لبنانيّة وطنيّة، وتحرير لبنان ودعم الشعب العربي الفلسطيني الشقيق.
إنّ موضوعاً كهذا حتماً يستحق النقاش، لأنّه يتعدى الاسم إلى التساؤل، ليس فقط عن الهويّة بل عما إذا كان الحزب (أي حزب) غاية بحد ذاته أم وسيلة من أجل مستقبل الإنسان وحريته.
7ـــ تغيّرات كثيرة حصلت في العقدين الأخيرين، إن كان في بروز العولمة وانتشارها، وما تمثله من كسر للحواجز الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة رافقتها ثورة معلوماتيّة، ليس من السهل حتى الآن رصد كل مفاعيلها الإيجابيّة منها والسلبيّة.
في ظلّ هذه المتغيّرات المقبلة لا محالة، ونجاح نسبي لقيم الليبراليّة السياسيّة، أكان في فصل السلطات أو كآليّة لتداول السلطة في كثير من البلدان الشيوعيّة سابقاً، تقع على الفكر اليساري مهمات نظريّة تواكب التغيّرات قراءة ونقداً ومساهمة، من أجل إرساء فكر يساري حركي نقيضٍ للعولمة المتوحشة والليبراليّة الجديدة؛ مناهض للإمبرياليّة التي ما زالت فاعلة وليست وهماً من مخلّفات الحرب الباردة.
يسار يغرف من تراث الحداثة عقلانية وعلمانية، بهما يبني وطناً ومجتمعاً متقدماً ويواجه أنظمة طائفيّة وأصوليات ظلاميّة أصبحت في كل مكان.
يسار يغادر القوالب الجاهزة ويصغي إلى الواقع ونبضاته دون الوقوع في فخ «الواقعيّة»؛ وأخيراًً ـــ وهذا موضوع يحتاج إلى جهد فكري بدأه البعض كمحمد دكروب وعبد الرزاق عيد وفيصل درّاج ومحمود أمين العالم وغيرهم ـــ يسار يعود لقراءة نقديّة لتراث حركة التنوير العربيّة التي همّشها ماركسيو الأحزاب الشيوعيّة وتجاهلوها على قاعدة ليبراليتها وبرجوازيتها؛ يسار يعيد الاعتبار إلى الفرد / المواطن الحر وحقوقه؛ يسار وجهته الثابتة دائماً وأبداً: «وطن حرّ وشعب سعيد».
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة