ينتمي إلى جيل مخضرم في الفنّ العراقي، عاش منذ ثمانينيات القرن الماضي كلّ الامتحانات والزلازل. تتلمذ على يد فائق حسن وإسماعيل الشيخلي، وبقي في بغداد شاهداً على سنوات الحرب، فالحصار، فالاحتلال والتشرذم الوطني. علامة فارقة: الرسم والحياة بالنسبة إليه وجهان لعملة واحدة
سعد هادي
أعطى فاخر محمد كلّ إمكاناته للرسم، لكنّ الرسم أخذه رغماً عنه إلى المطلق. كان يريد أن يبقى رساماً، فوجد نفسه لأسباب إدارية يدرس فلسفة الرسم وتاريخه، ويتخرّج حاملاً شهادة الدكتوراه على أطروحة عنوانها: إشكالية المطلق في الرسم الحديث.
يميل فاخر عامةً إلى أن يفلسف كل ما يتعلق بتجربته أو تجارب الآخرين، أو بظواهر الرسم المعاصر. وقد يستغرق في الشرح وقتاً طويلاً، بينما كان في السابق يكتفي بالحديث عن الخصائص التقنية وعن مظاهر الأشكال. كان يكتفي أحياناً بملاحظة ساخرة يختصر بها كل شيء، يضحك وهو يعقّب على ملاحظتنا بشأن حرصه على التنظير: «اطمئن لن أصبح فيلسوفاً ولا ناقداً، تركت ذلك لسواي. كنت رساماً وسأبقى كذلك».
كان الرسم اختياره الوحيد منذ طفولته. نشأ في قرية قريبة من النهر اسمها «بيت شطي»، لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن بابل التاريخية: «هناك، كنتُ أراقب الأسماك الصغيرة في النهر، وما زالت تلك الأسماك تتشكل بطريقة أو بأخرى في لوحاتي». لم يكتشف مدرّس الرسم موهبته، بل اكتشفها مدرّس العلوم، حين طلب منه أن يرسم مقطعاً عرضياً لحبة باقلاء. «ما رسمته كان أعجوبة بالنسبة إليه، كنت أذهب كل يوم إلى دكان حلاق قريب لأشاهد صورة لامرأة جميلة معلقة في الدكان، منقولة عن لوحة لأحد المستشرقين... ما كان يسحرني فيها، اختلافها عن الصور الفوتوغرافية. في تلك السنوات، كنّا نذهب أيضاً إلى أطلال بابل. كانت مدينة تاريخية بكل ما للكلمة من معنى، كل شيء فيها كان لا يزال على حاله: الرسوم والنقوش وشارع الموكب. في الثمانينيات، أعيد بناء المدينة بقرار سياسي فتغيّر شكلها».
في عام 1974 انتقل فاخر ليدرس في «أكاديمية الفنون الجميلة» في بغداد. تلك المرحلة يشبّهها الآن بالفردوس المفقود: «كان لدينا أساتذة رائعون يحملون مزيجاً من خبرات الشرق والغرب: فائق حسن وكاظم حيدر وإسماعيل الشيخلي وسواهم. كان المجتمع العراقي يمر بفترة من الازدهار والحيوية، لم يكن قد أصيب بعد بفيروسات الحروب والطائفية ومشاكل السياسة... أوّل سنتين، تعلّقت بالرسم الأكاديمي، ثم حدث تحوّل في وعيي ثقافياً وجمالياً، وبدأت أبحث عن أشكال مغايرة يمكنني أن أعبّر من خلالها عن شخصيتي الفنية وأسلوبي».
ما يشتغل عليه فاخر محمد في لوحته، ربما يستمدّ جذوره من تلك المرحلة. «أرسم دائماً أشكالاً واقعية، لكنني لا أسعى إلى المطابقة بل أرسم أحاسيسي وانطباعاتي عن الشيء المرئي». يعترف بأنّ لأساتذته دوراً في تشكيل وعيه الجمالي: «كانوا يفتحون الأبواب أمامنا، ولا يريدون أن نكون نسخاً عنهم، أنا الآن أتعامل مع طلبتي على هذا الأساس أيضاً. لا أمثّل شخصية المدرّس، بل أسعى إلى الحوار معهم كرسام. لكني أعجز، للأسف، عن توضيح أفكاري، فثقافة معظمهم بسيطة وعلاقتهم مع الكتاب شبه معدومة».
يؤكد أنّ كلامه لا يندرج في منطق صراع أجيال، بل يشير إلى هوّة حقيقيّة تزداد اتساعاً: «أنا من جيل لم يشهد استقراراً منذ عام 1980، ومع ذلك أواصل الحياة والإبداع. رأيت كيف ينهار بلدي وتنهار الثقافة العراقية تدريجاً، وعايشت هجرة الآلاف... كما رأيت أكداس اللحم البشري المبعثر على الأرصفة، لأبرياء لا علاقة لهم بالسياسة أو بالطائفية. هاجر معظم أصدقائي لكنّي أصررت على البقاء في المحيط الذي نشأت فيه. قبل شهور، سألني ضياء العزاوي هاتفياً: كيف حالك؟ قلت: أنا أشبه بمن وجد نفسه فجأة فوق حقل ألغام، عليه أن يواصل السير بمنتهى الحذر. إذ إن أبسط خطأ قد يكون الأخير!».
ما الذي تركه كل ذلك في رسمه؟ لا يردّ بطريقة مباشرة، بل يلجأ إلى تحليل الأمر فلسفياً: «لدي قناعة بأنّ الرسم والحياة وجهان لعملة واحدة. معظم لوحاتي أنجزتها كخلاصات جمالية لعلاقتي مع الحياة، لست رسام مواضيع إعلامية، كما أنّني لست مزوّقاً... أو باحثاً عن الجمال لذاته. أحاول دائماً أن أصوّر ما هو إنساني وما يشير إلى الديمومة. لا يعني ذلك أنّني كائن سلبي، بل هي طريقتي في الرسم التي أريد لها أن تستمر هكذا». يؤكد فاخر محمد أيضاً أنّه جزء من حركة الثقافة في العراق، بوضعها الراهن، إذ تمرّ بأزمة حقيقية: «الثقافة لا تزدهر في ظل القسوة والعنف، حتى الآن، بعد مرور خمس سنوات على الاحتلال، لم يحدث تحوّل مهم في الثقافة العراقية، ظلت على هامش الأحداث». لا يرى أنّ الخراب الأمني هو السبب، بل إن العجز هو من طبيعة الثقافة نفسها التي كانت مسيّسة دائماً، وتدار بأوامر حكومية: «الآن أضيف مبدأ المحاصصة! كيف سنتعامل إذاً مع ما أنجزه جواد سليم أو إسماعيل فتاح أو رافع الناصري... إذا كان علينا أن نعيد كلاً منهم إلى طائفته أو إلى مدينته أو إلى عشيرته؟ كيف سنقتلعهم من نسيج الثقافة العراقية ونعيد النظر في ما أنجزه كل منهم على حدة؟».
ما زال فاخر يعدّ نفسه تلميذاً في مدرسة الرسامين الكبار. معلمه الأول كان فائق حسن. يرى أنّ ثقافته بسيطة لكنّ رسومه كانت تتحدث بدلاً منه. أما شاكر حسن آل سعيد، فقد كان حارثاً كبيراً في أرض الفكر والفنّ... ومشكلته أنّه لم يُقرأ جيداً. كان فنان الحداثة بحق، وقد ذهب سره معه، ومن الرسامين العالميين. أما كبار الفنّ العالمي، من أمثال ميرو وبول كليه وبيكاسو وكاندنسكي... فلم يقيّض له أن يرى أعمالهم الحقيقية حتى عام 2000 حين ذهب للمرة الأولى إلى باريس. يومها ترك كل ما شاهده من أعمالهم في الكتب جانباً، وبدأ يحدّق في اللوحات نفسها بعينين مختلفتين. بالطبع بدا الفرق شاسعاً بين ما كان يعرفه وما رآه حقاً... فهل كان الذنب ذنبه؟ كان السفر شبه ممنوع، وخارج المتناول مادياً.
الخروج من الدائرة المغلقة هو دائماً فرصة حيويّة أمام الفنّان. وهنالك ما يخرج عن نطاق الفن طبعاً. أخيراً، زار فاخر مغارة «جعيتا» في لبنان في سفرة سياحية، ما وجده هناك كما يقول هو: «فن مطلق، أبدعته قوى لا يستطيع تسميتها. إنّه الجمال المطلق يخلق ذاته، جمال كلي متجانس». وسرعان ما يبستدرك: «هذه ليست فلسفة، هذه محاولة للتعبير عما صنعته الطبيعة، وما يعجز الإنسان عن ابتكاره، بل إن ما رأيته هو التجسيد الأفضل للمطلق».


5 تواريخ

1954
الولادة في الحلة، قرب بابل ــــ العراق
1977
بكالوريوس في الرسم
من «أكاديمية الفنون الجميلة»
في بغداد
1990
معرض جماعة الأربعة التي كان عضواً فيها، ألغي بسبب اجتياح للكويت
1992
أول معرض شخصي
خارج العراق، قاعة «بلدنا»
في العاصمة الأردنيّة
2002
«إشكالية المطلق في
الرسم الحديث»، أطروحة الدكتوراه التي ناقشها في كلية الفنون الجميلة،
جامعة بغداد