كانت كفررمان تستعدّ لتكريم «جمول» في الذكرى السادسة والعشرين لانطلاقتها. كانت ساحتها تنتظر احتضان نصب يحيي ذكرى شهدائها. والشهداء كانوا ينتظرون في أضرحتهم أكاليل الغار. أما أعضاء منظمة الحزب الشيوعي، فكانوا ينتظرون المساء لإضاءة شموع ذكرى لم تنطفئ يوماً في نفوسهم. إلا أن أياد مخربة امتدت وكسرت حالة الانتظار بمصادرة آخر ما بقي من زمن النضالات: ذكراها الطيبة
كامل جابر
كان نهار منظمة الحزب الشيوعي في كفررمان طويلاً يوم الاثنين الفائت، إذ «لم يبق جهاز أمني رسمي، إلا واتصل بنا ليمنعنا تحت جملة من الحجج، من وضع النصب في الحي الشرقي لبلدة كفررمان، حيث سقط العديد من شهداء جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية والحزب الشيوعي اللبناني، قبل غيرهم» كما أكّد مسؤول منظمة الحزب الشيوعي في منطقة النبطية الدكتور علي الحاج علي لـ«الأخبار».
فالحزب الشيوعي كان قد رتّب لإقامة نصب تذكاري للشهداء في ذكرى انطلاقة جمول: مجسّم لحمامة سلام مصنوعة من الحديد أسفلها مطرقة الحزب، وعبارة «تحية إجلال وإكبار لشهدائنا الأبرار، منظمة الحزب الشيوعي في كفررمان».
أكّد الحاج علي للجهات المتصلة أن الحزب قد اتّخذ جميع الخطوات الرسمية لإنجاز المشروع: «تقدمنا بعلم وخبر إلى بلدية كفررمان وحصلنا منها على الموافقة، فقيل لنا إن الأمر يحتاج إلى موافقة محافظ النبطية، فتساءلنا عن عشرات الأنصاب والمجسّمات والرايات التي تزيّن كفررمان، دون أن تكون قد استحصلت حتى على ترخيص البلدية. لماذا نعامل نحن بالذات وكأننا غرباء عن البلدة التي لنا فيها أكثر من ثلاثين شهيداً في مقاومة العدو الإسرائيلي؟».
إلا أن موقف المدعي العام أنصف «الغرباء»، إذ أكّد لهم، بعدما سجّلوا محضراً لدى الدرك، موافقته على بناء النصب، موضحاً لهم: «يحق لكم ما يحق لغيركم».
يروي الدكتور الحاج علي أن أعمال إعداد المجسم كانت تجري على قدم وساق تمهيداً لنصبه يوم أمس: «استمرت الأعمال حتى قرابة العاشرة من ليل الاثنين ــــ الثلاثاء، وظل النصب بحراسة عدد من شباب الحزب، حتى الساعة الثالثة والدقيقة الـ38 من فجر أمس الثلاثاء، حين عبرت سيارة مدنية وخلفها سيارة للجمارك وخلفهما صهريج للمحروقات لونه برتقالي».
لكن المرور لم يكن مرور كرام. يتابع الحاج علي: «تابعت السيارتان طريقهما وتوقف الصهريج. أرجعه صاحبه ثلاث مرات نحو النصب وصدمه، فدمّر قاعدته فأصيب بأضرار. ثم فرّ السائق بالصهريج الذي لا يحمل لوحات تسجيل نحو «سهل الميذنة»، شرقي كفررمان. وعندما حاول حراس النصب ملاحقته بسيارتهم، وعلى مسافة نحو 500 متر، قطعت عليهم سيارة الجمارك التي تحمل الرقم 700169 الطريق، ترجّل منها مسلحون مطالبين الشباب بالعودة من حيث أتوا».
لم تحبط هذه المضايقات المنظمة التي عملت منذ الصباح الباكر يوم أمس على إعادة النصب إلى موقعه وترميمه ليكون جاهزاً وقت المسيرة المقررة مساء.
إلا أن التّحرشات لم تقتصر على ذلك، وكانت المفاجأة في جبانة البلدة. فقد فوجئ مشيّعو أحد أبناء البلدة، بـ«البويا» التي تغطي وجوه شهداء «جمول» والحزب الذين استعادهم لبنان في 31 كانون الثاني 2004 في الملصقات المعلّقة عند الزاوية الشمالية الغربية من المقبرة، وهم الشهداء: محمد حسن قانصو وعلي جميل سلامة وعلي فارس سليمان وفؤاد محمد سلامة.
أما النفط، فقد كان من نصيب الأضرحة ذاتها، وسيلة لجأ إليها المعتدون لمحو الكتابات والشعارات التي افتداها الشهداء بأرواحهم.
منظمة الحزب في كفررمان، التي رأت أن الاعتداء مدبّر ومخطط له «عن سابق إصرار وتصميم» اتهمت في بيان لها «مباشرة ومن دون تردد، عملاء إسرائيل بارتكاب هذه الجريمة بحق شهداء المقاومة والحزب الشيوعي، لأن من تأذّى من مقاومة هؤلاء الشهداء وبطولاتهم هو إسرائيل، التي اعتقلت رفاتهم لأكثر من 17 عاماً». كذلك أكدت منظمة الحزب أنها تترك «أمور التحقيق وكشف الجريمة في عهدة وزير الداخلية المحامي زياد بارود».
انتزع «التخريب» ساعات النهار الأولى من احتفائية يوم أمس، لكنه لم يصادر الذكرى ولا وعي المواطنين، فقد حضرت دوريات قوى الأمن الداخلي إلى كفررمان فور إبلاغها، وسجلت محاضر بالمشاهدات وبدأت بالتحقيقات اللازمة، فيما تجمهر حشد من أبناء البلدة ومناصري الحزب وذوي الشهداء في المكانين اللذين تعرضا للاعتداء، معبّرين عن استيائهم واستنكارهم لما جرى، وسط تأثّر ذوي الشهداء من رؤية صور أبنائهم الشهداء مشوّهة وأضرحتهم مطلية بالنفط، وبكاء بعضهم «بحرقة».
«يا عيب الشوم». ذلك كان تعليق والد الشهيد علي جميل سلامة الذي سقط في عملية جبهة المقاومة شرقي بلدته كفررمان بتاريخ 25/10/1987، على المشهد. أما ردّه على ابن قريته الذي كان يحاول التخفيف عنه معتبراً ما جرى «شغل ولاد»، فقد كان: «نعم إنهم أولاد كبار، لكنهم أغبياء وبلا أخلاق أو ضمير».
أما والد الشهيد محمد حسن قانصو الذي سقط في عملية وادي الحجير بتاريخ 17/9/1990، فقد علّق: «ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها أبناؤنا للظلم، 14 عاماً وجثة ابني في الأسر، واليوم تشوه صورته من أعداء الداخل المرتبطين بالخارج، يا عيب الشوم».
تلقّت منظمة الحزب في كفررمان سلسلة اتصالات من عدد من القوى الحزبية والسياسية والاجتماعية تعلن استنكارها وشجبها للاعتداء، بينما اختارت الإبقاء على التشويه الذي لحق بالأضرحة «حتى يتسنى لأهلنا مشاهدة الفعل المستمر للعدو الذي يلاحق شهداءنا ويخاف منهم حتى في قبورهم، بعدما اختار يوم انطلاقة جبهتهم حتى يوجه ضربته ويحاول زرع الفتنة والشقاق بين الناس».