أرنست خوري
من السهل تمييز سمير أمين بين زحمة المثقّفين الذي التقوا في ندوة الـ«وست هول» في الجامعة الأميركية في بيروت: ابحث عن الذي لا يشبههم؛ صندل وقميص أفريقيّة ملوّنة وبنطال أكثر من عادي. ما إن تقابله حتّى تشعر برغبة عفويّة لمعرفة سرّ حيويّة هذا الرجل الذي بلغ السابعة والسبعين وما زال كتلة من النشاط لا تهدأ.
تتردّد ثوانٍ قبل أن تطرح سؤالك عن سرّ حركته الدائمة، وأنت تعرف سلفاً أنّ استفسارك يحمل شيئاً من السذاجة. فالرجل «أحد أكبر الكبار الباقين» في عالم «المفكّرين العضويّين». وكما كنت تخشى، يكاد احتكاكك الأول مع المفكّر الماركسي يكون سلبيّاً. يسمع السؤال ويعبّر عن انزعاجه على الطريقة المصريّة: «أنا مش جاي أتكلّم عن شخصيتي والحاجات دي. أنا بتكلّم في السياسة. أنا حيوان سياسي وشيوعي، ولن أتنازل عن ذلك».
تستدرك خطأك، فتحاول أن تشرح له أنّ المطلوب تكوين بانوراما تمزج بين فكره وشيء من شخصيته التي جعلت منه أحد أهمّ رموز «اشتراكيّة القرن الواحد والعشرين» (عنوان كتابه المقبل). هنا يظهر الوجه الآخر لسمير أمين؛ يبتسم متفهّماً، ويرضخ للطلب: «آه، آه... ماشي».
يسترسل في الحديث عن تفرّغه للكتابة وعمله في رئاسة «منتدى العالم الثالث» منذ 30 سنة. ثمّ يخبرك بحماسة كيف أنشأ مع آخرين «المنتدى العالمي للبدائل» عام 1997، أحد روافد الحركة البديلة للعولمة. واضح أنّه لا يجيد سوى التكلّم بالسياسة، فحتّى مذكراته (ثلاثة أجزاء ترجمت «دار الساقي» جزءين منها حتّى الآن) جاءت تقريراً سياسيّاً واستعادة لحقبة أساسيّة عاصرها بإنجازاتها وإخفاقاتها، أكثر مما كانت مذكّرات بالمعنى المتعارَف عليه.
تخال للحظة أنّ سمير أمين خدعك، وأصرّ على عدم التحدّث في أيّ شيء يتعلّق بحياته، بل حصر النقاش بفكره، وإقناع محاوره بضرورة بناء الجبهة العالميّة الاشتراكيّة القادرة على الربط بين «التقدّم الاجتماعي» والحريّات السياسية أو الديموقراطيّة (الحقيقية) لبناء المجتمع الاشتراكي، بعيداً عن أوهام اللحاق بالرأسمالية، وهو ما أنتج «رأسمالية من دون رأسماليين» (إحدى أشهر نظرياته).
وبين إشارة وأخرى، لا ينسى الرجل تمرير نقده الجذري للحركات الدينيّة على اختلافها، ولأجوبتها على تحديات الرأسمالية، وفي مقدمها الإسلام السياسي... «وما حزب الله عندكم في لبنان إلا خير مثال على رجعيّة هذا التيار اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً، من دون التقليل من عظمة دوره المقاوم ضدّ إسرائيل التي ستزول لأسباب أقلّها ديموغرافية». ويمضي في بسط نظرته الراديكاليّة: «أصلاً، للأسف لم تولد حركة إسلاميّة تقدّمية، والتجربة الوحيدة كانت مع محمود طه».
يمكن القول براحة ضمير إنّ العالم العربي لم ينصفه بعد. صيته في جامعات الغرب أكبر بما لا يُقارَن مما هو معروف عندنا. هو اقتصادي صاحب عدد من النظريات التي تنطلق من تفسير متجدّد للماديّة التاريخيّة، لتخلص إلى ما مفاده أنّ الرأسمالية العالمية باتت تضع البشرية أمام خيارين: إما الفناء أو الاشتراكيّة. خلاصة علميّة لا علاقة للإيديولوجيا بها. وقد «اخترع» عدداً من النظريّات الرائدة في الاقتصاد السياسي، أبرزها التبعيّة، وجدلية علاقة مركز العالم بأطرافه، و«اجتهاد الإمبرياليّة الثلاثية» (أميركا وأوروبا الغربية واليابان)...
سمير أمين، الشيوعي (لا السوفياتي)، ترك التنظيم الحزبي منذ زمن طويل. لكنّه ــــ بعكس كثير من مثقّفي اليسار ــــ لا يزال يؤمن بضرورة هذا التنظيم. على أي حال، هو لم يترك أي حزب شيوعي انتسب إليه طواعية. أكثر من ذلك، بقي طيلة فترات انتسابه في الحزبين الشيوعي الفرنسي والمصري، «مناضلاً عنيداً»، إلى درجة أنّه لم يملك إلا وقتاً قليلاً لامتحاناته الجامعيّة كما كتب، عام 1990، في «المسار الفكري» l’itineraire intellectuel.
استغنى الحزب الشيوعي الفرنسي عن خدماته إثر قرار قيادته (في عهد موريس توريز) آنذاك، بحصر عضوية شيوعيي العالم الثالث بأحزابهم الأم. بينما ظلّ في صفوف الحزب الشيوعي المصري، حتّى حلّ الحزب نفسه عام 1965. وقد يكون أكثر ما يسعد سمير أمين سؤاله عن قصّته مع القارة الأفريقية التي يكاد لا يفارقها.
اضطر إلى مغادرة مصر، وانتقل إلى فرنسا لاجئاً سياسياً في عام 1960، هرباً من تهمة الشيوعية في العهد الناصري. تحصيل شهادات الإجازة والدكتوراه (العلوم السياسية والإحصاء والاقتصاد) أوجب عليه البقاء في عاصمة الأنوار، «لكنني لم أشأ أن أبقى لاجئاً سياسياً عند الفرنسيين». يقولها كأنّه غافل عن كون والدته فرنسيّة. من الواضح أنّ الرجل لا يؤمن بأي هويّة ثابتة تربطه جغرافياً بأرض معيّنة. حتّى عروبته، هي خيار طبقيّ و«ليست هوية تجري في الدم». أما قبطيّته فلا تعني له شيئاً: «أنا شيوعي ووطني، أممي ومصري وملحد (لكن من دون تعصّب)... ولا تناقض بين هذه جميعها». حتّى في أمميته، يوحي لك بأنّه يغلّب هويّته العربيّة على نصفه الآخر الفرنسي، ويشهد عليه ـــ حين يتكلّم يلغة موليير ـــ أسلوبه الذي قد يُحسَد عليه... حتّى في الأكاديمية الفرنسيّة.
دائماً الشيوعية. في فرنسا، انخرط في النضال مع الخلايا الشيوعية واليسارية، لا سيما الأفريقية. وعندما حصل التغيير ذو المنحى اليساري في مالي، اتخذ قراره بالاستقرار هناك، حيث طابت له الإقامة قبل أن يتنقّل بين عواصم أفريقية آخرها دكار. فنجان قهوة وcigarello... يصمت لحظةً. ثم يتذكّر تفصيلاً مهمّاً: «الولايات المتّحدة؟ أمتنع عن زيارتها. بوسعهم أن يوقعوا بي، ببساطة، بأيّ حجّة واهية!»...
رفض سمير أمين عروضاً كثيرة كانت تأتيه، من كل مكان تقريباً، وخصوصاً من الأنظمة العربية، فهو يرى، ببساطة، أنّ مكانه ليس إلى جانب الأنظمة الرجعية. عاصر الثورات وحركات التحرر وأشياء أخرى من «الزمن الجميل». وعايش أيضاً النكسات والخسائر والهزائم. لكن مَن يحدثه، لا يصدّق أنّ آدمياً يستطيع أن يحافظ على هذا النقاء الفكري، إنّه المناضل الذي لا يعرف معنى الهدنة، حتّى لالتقاط الأنفاس. ويكاد يسخر منك حين تسأله عن الإحباط، ألم يصبه ولو بشكل عابر، في هذا الزمن الصعب؟ كلا، هذا المصطلح لم يدخل قاموسه لأنّه «متفائل بطبيعته»، ولأنّه يدرك أنّ التغيير آتٍ لا محالة... لكن «السكّة طويلة جداً».
كل كلمة يتفوّه بها، يحاول من خلالها تمرير رسالة. إنّ شيئاً ما يحصل في العالم، وهو يحصي تلك «الخطوات الثورية إلى الأمام» Avancée révolutionnaire. لا أفق زمنياً لها، ولا مواعيد ثابتة: من أميركا اللاتينية والصين وحرب القوقاز وتناقضات الرأسمالية... كل ذلك يوحي له بأنّ شيئاً ما كبيراً يحصل، وسيتغيّر العالم، لكن على الأرجح لن يكون ذلك في أيامه.
معظم أمثلته مستقاة من «الناس» بعيداً عن تعقيدات المفكّرين. تعريفه لديموقراطيّة «فالسو» مثلاً: فلاحة في مالي أوضحت الصورة: «في أيام الحزب الواحد، كنّا عندما نحتاج إلى أي شيء، نعرف إلى مَن نلجأ وكم الثمن الذي يجب دفعه، ونعرف أنّ النتيجة ستكون مضمونة. أما اليوم، (تعدّد حزبي) فالوضع أنّنا لا نعرف إلى من نلجأ ولا الثمن وتبقى النتيجة غير مكفولة».


5 تواريخ

1931
الولادة في بور سعيد (مصر)
1957
دكتوراه في العلوم السياسية والاقتصاد والإحصاءات، بعد عقد من الدراسة في فرنسا
1960
اللجوء مجدداً إلى باريس هرباً من نظام عبد الناصر، بسبب عضويته في الحزب الشيوعي المصري الذي حلّ نفسه بعدها بخمس سنوات
1997
أسّس مع آخرين «المنتدى العالمي للبدائل»، أحد روافد الحركة البديلة للعولمة
2006
كتب مذكّراته بالفرنسيّة في 3 أجزاء، عرّب جزءين منها حتّى الآن، وصدرا عن «دار الساقي» في بيروت