ألعاب الفيديو ليست مجرد تسلية، إنها «الخزان» الذي يتضمن مجموعة من القيم والنماذج وأنماط الحياة، وهي تصنع الثقافة العالمية الجديدة. مع بداية شهر رمضان طُرحت لعبة Spore التي تسمح للاعب بأن يكون «الخالق»، وهي كما الألعاب الأخرى، تحوّل الفرد إلى نموذج بعيد عن مفهوم الإنسان المستقل
غسان رزق
يغيّر رمضان الكثير من عادات السهر الليلي في صيدا. وتجد بعض الأقدام طريقها مُجدداً إلى البلدة القديمة، حيث عاش بعضهم طفولته وحيث عاش الآباء والأجداد. والأرجح أنه لا يصعب على العيون العائدة أن ترصد المتغيّرات الجمّة في الحياة اليومية للبلدة التاريخية، وخصوصاً حياة الليل فيها. ويبرز متغيّر تكنولوجي لافت: الانتشار الواسع لمقاهي الإنترنت فيها. وفي دهاليز تلك الأحياء، يبدو كأن تلك المقاهي تتبع نمطاً محدّداً. إذ تستقر في الطبقات السفلى من المباني التاريخية، على مستوى أدنى من الشارع. وتستقر أجهزة الكومبيوتر على خطوط خشبية متوازية، ترسم زوايا متعرجة. ويعمد القائمون عليها إلى تقطيعها إلى «مكعبات»، بحيث يضمن اللاعب ألا يراه أحد.
على رغم كثافة وجود التنظيمات الدينية، وقوة نفوذ مشايخ المساجد، إلا أنهم فشلوا في منع أصحاب تلك المقاهي من «إغواء» المراهقين بإتاحة وصولهم إلى المواقع الجنسية الإباحية على الإنترنت. كما عمد بعضهم إلى وضع ألعاب إلكترونية جنسية على بعض الكومبيوترات في دواخل المقاهي. من المهم القول إن أثر الألعاب الإلكترونية يمتد أبعد من هذا البعد المتصل بالمكبوت والمقموع في الدين. وبقول آخر، فإن الألعاب الكومبيوتر تتضمن مجموعة هائلة من القيم والنماذج وأنماط الحياة، ما يجعلها «مضخة» للثقافة وصورها وخيالاتها وأهوائها وذائقاتها.



وفي ظل الصعود القوي للثقافة البصرية راهناً، يدعمها عربياً الانفجار الهائل للظاهرة المرئية ـــ المسموعة على الفضائيات، يصبح نقاش الألعاب الإلكترونية مساحة ثقافية وسياسية واجتماعية، تتجاوز المعطى الديني. ومثلاً، تصادف رمضان المبارك مع إطلاق لعبة الإنترنت Spore، التي تعطي اللاعب فرصة لكي يلعب دور... الخالق! وقد أصدرتها شركة «إلكترونيك آرتس» Electronic Arts، بعد تأخير دام 6 سنوات. وتشمل اللعبة مواضيع تتضمن ولادة الحياة على الأرض وتطوّرها وارتقائها (بالمفهوم الدارويني تقريباً) والانفجار العظيم الذي تشكل الكون منه، إضافة إلى مواضيع شتى من الحياة اليومية. وتذكيراً، فإن الشركة نفسها صنعت اللعبة الإلكترونية الذائعة الصيت Sims، التي يتخذ فيها اللاعب لنفسه شخصية افتراضية في اللعبة. وتتفاعل تلك الشخصية مع نظائرها في مواضيع تتناول العلاقات اليومية، مثل الحب والجنس والعمل والصداقة والتنافس والرياضة وغيرها. وقد حققت أرباحاً بمليارات الدولارات، أضخم مردود مالي في تاريخ الألعاب الإلكترونية حتى الآن. ولفتت «سيمز» انتباه علماء الاجتماع في أميركا، الذين لاحظوا أنها ترسم «شخصيات مُنَمذَجة» (Stereotype) للبشر، بحيث إن كل شخص يفكر في الآخر باعتباره «نموذجاً» لا باعتباره فرداً مستقلاً. واستطراداً، فقد قيل فيها تكراراً إنها تعزز الميول العنصرية والذكورية، إضافة إلى تدعيمها التعالي الاجتماعي، كما أنها ترفع المال بوصفه قيمة تعلو على الأخلاق، ما يبرّر فعل أي شيء للحصول عليها. ولذا، انتظر الجمهور والشركات وعلماء الاجتماع والنفس لعبة «سبور»، التي أُعلن سلفاً أنها ستشمل مروحة أوسع من المجالات، بحيث إن صانعها ويل رايت لم يتردّد في وصفها بأنها «الكون في علبة». ومثلاً، ترسم لعبة «سبور» مساراً لكائنات حيّة تبدأ من تراكيب بيولوجية بسيطة (أقل من خلية) تتطوّر تدريجياً لتصبح خلايا ثم كائنات صغيرة ثم أشكالاً حيوانية بسيطة ثم أشكالاً أكثر تعقيداً ورقياً. وتدريجياً، تكتسب تلك الكائنات ذكاءً يمكنها من التطور وبناء مجتمعات واختراع تكنولوجيات ثم السفر في الفضاء. وعلى هذه الخلفية، يستعمل اللاعب مجموعة كبيرة من الأدوات لكي يرسم مسار تلك الكائنات، بحسب ما تفيض به مخيلته وتفاعلها مع المسار العام الذي تفرضه اللعبة وتركيبتها. ولم يتردد فرانك غيبو، من شركة «إلكترونيك آرتس» نفسها في القول «اللعبة تخاطب الرغبة الدفينة للبشر في لعب دور الآلهة... أعتقد أن تلك اللعبة ستلازم الناس لسنوات طويلة». يُذكر أن الشركة أطلقت أيضاً نُسخاً من تلك اللعبة معدّة لهواتف «أي فون»، إضافة إلى مُشغل الألعاب Nintendo من نوعي «وي» ودي سي».
تجدر الإشارة أيضاً إلى أن تقريراً صدر أخيراً عن بحث جرى بإشراف البروفسور ديفيد جوانتليت وليزي جاكسون من جامعة وستمنستر البريطانية. وجاء فيه أن العوالم الافتراضية قد تساعد الأطفال في التمرّن على ما يتعلمونه في الحياة الفعلية. وأن الحيوات الافتراضية أقوى تأثيراً على الناشئة من الكتب وحتى من التلفزيون. وخلص البحث إلى دعوة المربين والأهالي والمؤسسات الإعلامية والترفيهية لإنتاج فضاءات افتراضية مخصّصة للأطفال، وأيضاً لجذب أطفال أصغر سناً إلى التعلم والاستفادة من هذه الحيوات الافتراضية وألعابها.