طراد حمادة*تهدف الديموقراطية إلى تأمين الانتقال السلمي للسلطة، ومصدرها الشعب الذي يختار ممثليه، إلى البرلمان في انتخابات تشريعية عامة، تسير وفق القوانين التي تحدد طريقة إجرائها، لتؤمّن بدورها التمثيل الحقيقي للإرادة الشعبية في الحكم وإدارة شؤون الدولة. وتؤمّن الديموقراطية حقوق الأكثرية في الحكم، وحقوق الأقلية للمعارضة، وتسمح بالمشاركة بين الأكثرية والأقلية في حكومة وحدة وطنية تتحقق الحاجة إليها في ظروف سياسية محدّدة. لكن الديموقراطية لا تميّز بين حق الأكثرية وحق الأقلية، ولا تنحاز إلى واحدة ضد الأخرى، بل لعل اعتراف الأقلية بنتائج الانتخابات، غاية نزاهتها، وعادة ما يكون هذا الاعتراف والقبول المصدر الذي يعطي الأكثرية حق الحكم.
وهذا الحق في الحكم مشروط، إلى جانب حسن تمثيل الإرادة الشعبيّة وعدم الانقلاب عليها، بمنح الأقلية البرلمانية حق المعارضة والمساواة في ممارسة العمل السياسي من دون ضغوط وقهر واستغلال واستئثار. يعني أن حق المعارضة مصون في المفهوم الديموقراطي، ولا يمكن النيل منه. وعليه، تُتداول السلطة بطريقة سلمية، فلا تنشأ مشكلات في الديموقراطيات العريقة، بل تعمل الديموقراطية الحقيقية على حل المشكلات لا توليدها وإثارتها من جديد.
تتعرض الديموقراطية إلى محاولات متعمّدة للانقلاب عليها، من خلال استئثار الأكثرية البرلمانية في دورة انتخابية محددة، لإلغاء الفعل الديموقراطي نفسه، والسعي إلى إعادة إنتاج السلطة، لمصلحة الأكثرية الحاكمة أو منع التداول السلمي للسلطة بواسطة ممارسة الفعل الديموقراطي. ويعرف هذا الانقلاب على الديموقراطية أشكالاً عديدة من أبرزها الأشكال الآتية:
1 ــــ ممارسة الديموقراطية لمرة واحدة. ومفادها أن قوة سياسية معينة تصل إلى السلطة بواسطة الانتخابات، ولكنها تمارس السلطة في سبيلين:
أ ــــ إجراء انتخابات معدّة لإعادة إنتاج السلطة الحاكمة نفسها دون احترام القوانين التي ترعى ممارسة الفعل الديموقراطي النزيه والحر والذي يسمح بإنتاج سلطة تمثل الإرادة الشعبية تمثيلاً حقيقياً.
ب ــــ منع الفعل الديموقراطي نفسه بتعطيل تداول السلطة بواسطة العملية الديموقراطية، وعنوانه منع الانتخابات وتعطيلها وخلق المشكلات بدل العمل على حلها.
2 ــــ قمع المعارضة، ومنعها من ممارسة العمل السياسي، واستخدام السلطة لسن قوانين تضيّق على ممارسة الديموقراطية، والاكتفاء منها بالظاهر الشكلي بدل جوهر الفعل الديموقراطي نفسه الذي يسمح بالتداول السلمي والحر للسلطة.
إن ممارسة الاستبداد السياسي تؤدي إلى إلغاء جوهر الفعل الديموقراطي واستغلال الديموقراطية من أجل إلغائها. تصبح الديموقراطية الشكلية وسيلة لإلغاء المفهوم الحقيقي لجوهرها الذي هو غايتها ومقصدها الأسمى.
إن المخاطر المترتبة على انقلاب أكثرية برلمانية زمنية على الديموقراطية التي أنتجتها، تمثل قمة تعطيل الفعل السياسي وفساده، وهذا من عوامل فساد الممالك وانهيارها. إنّ داءً عضالاً يصيب السياسات العامة لقوى سياسية وصلت في مرحلة زمنية معينة إلى سدّة الحكم ثم انقلبت عليه، يعوق التوازن الذي تقيمه الحياة بين عناصر الأشياء، لتجعلها تنمو بطريقة طبيعية منسجمة ومتناسقة تتوالد دون وجود تشوّهات تفسد عملية النمو السياسي. عملية تشبه ما يصيب الأجسام الحية حين تتعرض لخلل خطير في مسار نموها الطبيعي...
هل لبنان معرّض لأخطار الانقلاب على الديموقراطية؟ وهل في مشروع الأكثرية البرلمانية الانقلاب على الديموقراطية وتعريض البلاد لأخطار الاستبداد والفساد، وتفاقم أشكال الفوضى والعنف، بدل الاستقرار والسلم الأهلي؟
ما يشهده الواقع السياسي اللبناني الراهن ينذر بمخاطر الانقلاب على الديموقراطية، رغم توافر عناصر عديدة تجعل من هذه المحاولات التي بدأت تكشف عن نفسها، محاولات يائسة عديمة الجدوى وقاصرة عن تنفيذ أهدافها.
وعليه، يمكننا القول إنّ لبنان، رغم أخطار الانقلاب على الديموقراطية من جانب الأكثرية البرلمانية فيه، يبقى بفعل ثقافة الديموقراطية اللبنانية نفسها، موضوعاً على كف الأمان.
* وزير سابق