هشام صفيّ الدّين*ختامها مسك. أقلّ ما يجب أن يقال ليس في انطلاق مؤتمر الحوار الوطني (هل يختم الحوار أيّ مسألة في لبنان؟)، بل في النجاح المرتقب لإقرار القانون الانتخابي الجديد (القديم جدّاً) في الأيام المقبلة. هذا إذا ما استمرّت رياح المصالحة والتآلف بالهبوب على ربوع الوطن من طرابلس مروراً بالجبل ووصولاً إلى طاولة الحوار في بعبدا. وحريّ بالطبقة السياسية أن تحتفل بهذا الإنجاز المبارك (في شهر مبارك) لما يمثله من تتويج للمساعي المتنامية أخيراً لترسيخ العيش المشترك (أي المحاصصة الطائفية بين النخب بالتراضي).

في المقابل، ستعلو الأصوات العلمانية واليسارية المعارضة للقانون لتؤكد مجدّداً على ضرورة اعتماد القانون النسبي كمدخل لتغيير النظام الطائفي أو التخفيف من حدّته. وقد تترجم هذه المعارضة عبر إطلالات إعلامية وربما ندوات فكريّة وحتى اعتصامات خجولة لهيئات المجتمع المدني. ولكن كي لا يكون مصير هذه المحاولات المتكرّرة الخيبة من دون أيّ مكسب، هل تساءلت هذه القوى إن كانت المطالبة بقانون وفق النسبية جزءاً من استراتيجية ناجحة لمحاربة الطائفية؟
بمعنى آخر: هل طُرح السؤالان التاليان: هل هناك جدوى من بذل أيّ جهد سياسي للدّعوة لإقرار قانون يعتمد النسبية بدل استثمار هذه الجهود في مواضع أخرى في ظلّ ضآلة الإمكانات السياسية الراهنة لهذه القوى وتعاظم الشعور الطائفي لدى الجميع؟
وفي حال إقرار القانون وفق النسبية هل يتحقق فعلاً ما تربو إليه هذه القوى من تغيير ملموس يشجع المواطن على أن يفكّر ويتصرّف بمنطق سياسي لا طائفي؟
لا يختلف اثنان أنه من الوجهة النظريّة البحتة، القوانين وفق النظام النسبي أقلّ طائفية من القوانين وفق النظام الأكثري. لكن إلى أيّ مدى يترجم ذلك في الممارسة العمليّة؟ الجواب عن هذا السؤال يتطلب النظر لا في النماذج الغربية المثالية كفرنسا أو السويد، بل في حالات مماثلة لا مطابقة للحالة اللبنانية، أي حيث استخدم القانون النسبي للتخفيف من حدّة نزاع سياسي عنيف مبني في الغالب على انقسامات دينية أو إثنية حادّة وتاريخية، كتلك الموجودة في إيرلندا الشمالية (بين البروتستانت والكاثوليك)، أو جزر فيجي في المحيط الهادئ (بين السكان الأصليين وأولئك من أصل هندي).
أوّلاً، تجدر الإشارة إلى أنه في كلتا الحالتين (أي إيرلندا الشمالية وفيجي)، لم يُستخدم النموذج الكلاسيكي الأكثر رواجاً بين دعاة النسبية في لبنان، أي التمثيل النسبي للّوائح الحزبية في دائرة واحدة تشمل كلّ أنحاء الوطن. ذلك أن هذا النموذج، المعمول به في إسرائيل، يفضي إلى تركيبة برلمانية هي صورة مصغّرة عن كلّ القوى الطائفية وغير الطائفية لا أكثر، وهو ما يحدث فعلاً في إسرائيل. وبالتالي فهو يصحّح التمثيل النيابي ليصبح أكثر إنصافاً للكتل الصغيرة، لكنه حيادي عندما يتعلق الأمر بتخفيف الانقسامات أو تفضيل أحزاب من لون معيّن.
في إسرائيل مثلاً، يسمح القانون الانتخابي بزيادة تمثيل الأحزاب الدينية. أما في لبنان، فقانون كهذا قد يؤدّي إلى حصول الأحزاب العلمانية على بعض المقاعد، ولكن بنسبة ضئيلة لا يمكن أن تمثّل أي ضغط فعلي نحو إلغاء الطائفية، بل قد تؤدّي إلى انشغال هذه الأحزاب باللعبة الانتخابية والمساومة مع القوى الطّائفية، وبالتالي إلى تقاعس هذه الأحزاب عن المطالبة بتغيير حقيقي بعدما أصبحت جزءاً من النظام السياسي. هذا في نموذج التمثيل النسبي في الوطن كدائرة واحدة.
أما النماذج التي اعتمدت في فيجي وإيرلندا الشمالية، فهي تعتمد حسابات معقّدة تمنح الناخبة حق ترتيب المرشحين أو لوائح الأحزاب، بدءاً بخيارها المفضّل وانتهاءً بأقلّهم تأييداً. وقد ظنّ واضعو هذه النماذج أنّ اعتمادها سيدفع الأحزاب الدينية والإثنية التي تنتمي إلى فئات متناحرة إلى إقامة تحالفات في ما بينها تخفف من عصبية خطابها السياسي وتشجع على ظهور أحزاب ذات قواعد شعيبة تتخطّى الحدود الطائفية والإثنية. لكن العمل بهذه القوانين لم يحقق سوى نتائج هامشية أحياناً وغير متوقعة أحياناً أخرى بسبب تحالفات والتفاف على القانون لم تكن بالحسبان.
وبقيت القوى الأساسية في كلا البلدين هي تلك المبنية على الهويّة الدينية أو الإثنية. وتجربتا إيرلندا الشمالية وفيجي ليستا سوى دليل آخر على أن الإصلاح السياسي الجذري لا يحصل عبر إصلاح القوانين بل العكس. والحديث المتكرّر عن بناء الدولة الحديثة والعادلة من باب إصلاح القوانين (المطالبة بالنسبية أو الكوتا النسائية) هو ترداد لمقولات ليبرالية غربية حديثة لا معنى لها خارج نظام أسسه العلمانية في هذه الدول نفسها، جرى تثبيتها بالدم والبارود الحي (لا بارود المجتمع المدني) وتُرمّم وتُفعّل (أو تُضعف) بالإصلاحات القانونية، وهو أبعد ما يكون عن الواقع اللبناني.
القوانين الانتخابية ليست ما يدفع نحو حرب أهلية وطائفية أو يخرج شعباً منها. إذا أرادت القوى العلمانية أن تحارب الطائفية لا أن تسجلّ مكاسب سياسية أقلّ من متواضعة وآنيّة، فهناك ألف قضية ووسيلة غير تلك التي تطالب حماة القانون بتغييره (هل يطلب الراعي من الذئب تغيير قواعد اللعبة؟). والكلام عن مقاربة الموضوع من زواياه القانونية وغير القانونية يفتقر إلى ألف باء العمل السياسي الإصلاحي. فمن دون وضع أولويّات لهذا العمل السياسي وتركيز كلّ الطاقات المتوافرة على قضايا محددة تتعلق بجذور المشكلة والمثابرة حتّى تحقيق انتصارات صغيرة على مستوى القواعد تؤدي في المدى البعيد إلى خلق قوّة سياسية يحسب لها حساب، ستبقى الجهود الإصلاحية ضمن نطاق القول وخارج إطار الفعل. وستتحوّل الاعتصامات والندوات والاحتجاجات إلى طقس من طقوس انتظار غودو، لأنّه بكلّ بساطة... لن يسقط الإصلاح من فوق!
* باحث وصحافي