تختبئ وراء أزمة الغذاء أزمة لا تقل خطورة عنها: أزمة المياه. يخلص مفهوم «المياه الافتراضية» الذي يحسب كمية المياه المستخدمة لإنتاج الغذاء، إلى ضرورة تحديد الأمم «الجافة» لاستراتيجيتها الزراعية استدراكاً للأزمتين
إعداد رنا حايك
«المياه الافتراضية» هو مصطلح اخترعه البروفسور في «الكلية الملكية في لندن» جون آلان كينغ، الحائز «جائزة المياه ـــ ستوكهولم»، في عام 2008، ويقصد به أن الأشخاص يستهلكون المياه ليس فقط حين يشربونها أو يستحمّون بها، ولكن أيضاً حين يستهلكون المنتجات الغذائية. فهذا المصطلح يشمل المياه المستخدمة في إنتاج وتجارة الغذاء والمنتجات الاستهلاكية منذ زراعتها في الحقل وصولاً إلى استهلاكها على المائدة.
فإعداد فنجان القهوة، مثلاً، وفق هذا المفهوم، يستهلك حوالى 140 ليتراً من المياه التي تستخدم في زراعة حبوب البن وإنتاجها وتغليفها وشحنها.
أما قطعة الهامبرغر الواحدة، فهي تستهلك ما يعادل 2400 ليتر من المياه، وكيلوغراماً واحداً من لحم البقر يستهلك 15000 ليتر، وقطعة من الخبز الأبيض تستهلك 40 ليتراً، بينما تصل كمية المياه المستخدمة في كيلوغرام واحد من الجبنة إلى 5000 ليتر.
جاءت هذه الخلاصة نتيجة أبحاث علمية قام بها باحثون في هولندا، وهي تشمل كمية المياه المستخدمة في هذه المواد الاستهلاكية خلال كل مرحلة من مراحل عملية إنتاجها.
بالنسبة للجبن مثلاً، يشمل ذلك كمية المياه المستخدمة لإنتاج العلف الحيواني، بالإضافة إلى تلك التي تستخدمها الحيوانات وتلك التي تتطلّبها عملية تصنيع الجبن وتغليفه ونقله.
يتّضح مدلول هذه الأرقام أكثر حين نركّز البحث على مستوى تكلفة الإنتاج والتصدير. ففي كل مرة نبيع فيها كيلوغراماً واحداً من الجبن، يبلغ ثمنه بضعة آلاف من الليرات، نكون نبيع ما يعادل 5000 ليتر من المياه. هذا المفهوم يجب أن يدفع الكثير من البلدان الجافة إلى إعادة النظر في استراتيجية التصدير الخاصة بهم، وخصوصاً حين يدركون أنهم يصدّرون مياهم بأثمان رخيصة.
فالأرقام تشير، مثلاً، إلى حاجة إنتاج كيلو البطاطا إلى 250 ليتراً من المياه، وحاجة إنتاج كيلو الذرة إلى حوالى 1000 ليتر. فإذا كانت عوائد التصدير هي ذاتها في الحالتين، أي من المنتجين يجب اعتماده في الزراعة؟ وفي التصدير؟
يقول الخبراء إن حبة واحدة من البندورة المزروعة في المغرب، وهو بلد جاف، تستهلك 13 ليتراً من المياه لتنمو، بينما يستهلك إنتاج قميص قطني في سوريا، الباكستان أو أوزباكستان، ما يقارب 2700 ليتر من المياه.
يجب أن تأخذ آلية صنع الاستراتيجيات هذه الوقائع، بموازة قضايا الأمن الغذائي والسيادة، بعين الاعتبار.
إن مفهوم «المياه الافتراضية» يلعب دوراً مهماً أيضاً في مجال تقييم خيارات الغذاء المستدام. فبما أن نمو الحيوانات يتطلّب كميات كبيرة من الماء، يحتاج إنتاج نظام غذائي معتمد على اللحوم، كميات أعلى بكثير من تلك اللازمة لإنتاج نظام غذائي نباتي.
بالنسبة لشخص يستهلك 2500 سعرة حرارية في اليوم، تمثّل اللحوم 20% منها، تكون كمية المياه المستهلكة في إنتاج الغذاء 1,350,000 ليتر، بينما قد لا يتخطى استهلاك الشخص النباتي للمياه نصف هذه الكمية. يجب مقارنة ذلك بالاستهلاك المنزلي للمياه بالنسبة للأشخاص، وهو يقارب 250 ليتراً من المياه يومياً.
هذا ما دفع بمجموعة من الباحثين الذين تحدثوا خلال مؤتمر المياه العالمي الأخير في استوكهولم إلى التحذير من أن أزمة الغذاء التي واجهها العالم أخيراً تخبّئ في الواقع وراءها أزمة أخطر: أزمة مياه. فالمياه قد تصبح قريباً العامل الأكثر تهديداً لإنتاج الغذاء.
في العالم العربي، المياه هي التي تمنعنا من أن نحقق الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء. يجعل ذلك من التبذير في الغذاء مرادفاً للتبذير في استهلاك المياه.
ففي الولايات المتحدة وحدها، تبلغ قيمة 30% من المنتجات الغذائية التي تُبذّر 48.3 مليار دولار. إن ذلك بمثابة ترك صنبور مفتوح يتدفّق منه 40 تريليون (ألف مليار) ليتر من الماء مباشرة نحو القمامة، وهي كمية كافية لتأمين حاجة 500 مليون شخص من المياه للاستخدام المنزلي.
يرى الباحثون أن نصف كمية المياه المستخدمة عالمياً لإنتاج الغذاء قد تكون مياهاً مهدورة.
وبالتالي، يمثّل تطوير إنتاجية الماء وتقليص الكميات المهدرة منه اليوم أولوية بالنسبة للأمم الجائعة والعطشى. فهذه هي الطريقة الوحيدة لتوفير نظام غذائي أفضل للفقراء، ومزيد من الغذاء لشعوب البلدان النامية.