في حزيران الماضي، نظّمت القوات البريطانية جولة ميدانية لبعثة من المتحف البريطاني على 8 مواقع أثرية في جنوب العراق نتج منها تقرير أثار ارتباكاً في الأوساط العلمية الغربية. تنفرد «الأخبار» بنشر تفاصيل الجولة، بعدما زوّدتها بها البروفسورة مارغريت فان إس، إحدى أعضاء البعثة

جوان فرشخ بجالي
يطلق علماء الآثار على جنوب العراق تسمية «مهد الحضارات». ففي تلك البقعة من العالم، بين نهري دجلة والفرات، الحياة الإنسانية تطوّرت. وهناك انتقلت المجتمعات من الحياة الريفية إلى تلك المدنيّة، وبدأ النسيج العمراني بالتطوّر مستدعياً تطوّر مقومات الحياة الاجتماعية معه. إذاً، يمكن القول إن جنوب العراق شهد نشوء حياة الإنسان الحالي.
أمّا المواقع الأثرية التي تحوي أسرار هذا التطور، فهي تتعرّض منذ بداية الاحتلال الأميركي للعراق لأكبر عملية سرقة عرفتها في تاريخها الذي يعود الى أكثر من 8000 سنة.
سكنها السارقون ونهبوها ليلاً ونهاراً، ما أدّى إلى تدمير كلّي لمدن سومرية عديدة.
حافظ سوء الوضع هذا على تبوّء آثار العراق صدارة الأولويات لدى كبرى جامعات ومتاحف العالم الغربي، وخصوصاً المتحف البريطاني. وآخر إنجازات المتحف في هذا المجال، جولة نظّمتها القوات البريطانية العاملة في البصرة لفريق علمي متخصّص أرسله إلى جنوب العراق للاطلاع على وضع الآثار هناك.
عمل الفريق العلمي المؤلف من بريطانيّين، وألمانية وأميركية، وثلاثة عراقيين، تحت إشراف القوات البريطانية التي استعانت بالقواعد الأميركية للتحليق والهبوط والمبيت، لمدة 4 أيام، زار خلالها 8 مواقع أثرية.
ومن أعضاء الفريق البروفسور مارغريت فان أس، مديرة المعهد الألماني للدراسات في الشرق الأوسط التي تدير عمليات التنقيب عن الآثار في موقع أوروك (مدينة الوركاء ــ عاصمة جلجامش)، والتي طُلب منها الالتحاق بالفريق العلمي بسبب خبرتها في العمل في جنوب العراق، ومعرفتها الواسعة بموقع الوركاء وبغيره، وبطبيعة الطقس والسكان.
تقول فان إس في معرض حديثها عن الجولة: «كان التحضير للزيارة سرياً للغاية. لم يخبرونا عن موعد السفر إلى العراق إلّا قبل يومين منه. في اليوم الأول من الزيارة، تجاوزت الحرارة على الموقع الخمسين درجة مئوية، وعند حلول الظهيرة بدأت العواصف الرملية تحجب الرؤية عن القبطان وعنّا، ما منعنا من اتّخاذ صور ذات نوعية جيدة. كذلك أصبح التحرك على الموقع صعباً للغاية، وخاصة أننا كنا نرتدي الخُوَذ والبدلات الواقية من الرصاص، ما دفعنا إلى تعديل برنامج الزيارة، وإعادة تحديده من العاشرة صباحاً حتى الرابعة والنصف فجراً. أصبحت الطوّافة تنقلنا إلى المواقع مع الفجر. ولكن، ولأسباب لوجستية بحتة، لم نستطع زيارة أكثر من موقعين أثريين في النهار الواحد. فالطائرة المحمّلة بـ25 راكباً (8 علماء آثار والباقي عناصر من الجيش البريطاني يؤمّنون الحماية للبعثة) كانت تتحرّك لمسافة معينة فقط. ولأسباب أمنية، لم تقبل القوات البريطانية بإجراء رحلتين في اليوم الواحد معتبرةً أن خروج الطائرة مرّتين في اليوم الواحد أمر في غاية الخطورة. ما حال دون زيارتنا لأكثر من ثمانية مواقع، رغم طلباتنا المتكررة بزيارة المزيد منها».
أما عن الزيارات، فتصف فان إس الوضع خلالها بـ«الحرِج أحياناً». فحين حطّت الطائرة مثلاً على موقع أم اللحم، وصلت القوات العراقية الخاصة بحماية المواقع شاهرةً السلاح على القوات البريطانية التي ردّت بالمثل، فوقف علماء الآثار بين القوّتين محاولين حلّ الخلاف حبياً. أما في موقع أوروك، المعروف تاريخياً بمدينة «الوركاء»، عاصمة البطل الأسطوري جلجامش، فلم يستغرق الحرس أكثر من بضع دقائق ليصلوا إلى الموقع شاهرين أسلحتهم، لكنهم سرعان ما تعرّفوا إلى وفد العلماء فلم تحدث مواجهة.
يطمئن ردّ الفعل هذه الخبيرة الألمانية التي تعتقد «أن وصول الفريق الخاص الذي أنشأته السلطات العراقية عام 2004 لحماية المواقع الأثرية، مدعاة للاطمئنان إذ يؤكّد أن هناك حماية معيّنة على المواقع». كما تطمئنها الوقائع التي تشير إلى توقّف عمليات النهب، تشرحها قائلة: «المقارنة التي أجريت بين الكشف على الأرض والصّور الجوية التي زودتنا بها البروفسور إليزابت ستون سمحت لنا بالتأكّد أن عمليات النهب على هذه المواقع توقّفت منذ عام 2004. فما من آثار لحفر جديدة، وهذا يدعو للتفاؤل».
إلا أن أكبر علماء الحضارة السومرية ومديري المعاهد التي تدرس حضارات ما بين النهرين لا تشارك فان إس تفاؤلها، ولا تبدي ارتياحها للمقاربة التي جرت على أساس صور جوية تعود إلى 2004.
في هذا السياق، يقول البروفسور ماغويار غيبسون الذي هو من أكبر المدافعين عن قضية المواقع الأثرية العراقية، وأول من حاول إقناع الجيش الأميركي بأهمية الحفاظ عليها: «إن وضع الآثار في العراق لا يدعو إلى هذا التفاؤل المفرط. وإن زيارة 8 مواقع لا تسمح بالجزم بأن المواقع الأخرى لا تتعرض للسرقة. فمعهد دراسات الشرق الأوسط القديم حصل على صور تعود إلى عام 2006 تؤدي مقارنتها بصور 2004 إلى الجزم بأن عملية السرقة بقيت على حالها حتى ذلك التاريخ، والقيام بجولة على باقي المواقع، أو تقديم صور جوية حديثة العهد هما العنصران الوحيدان الممكن الاستناد إليهما لتقويم وضع الآثار في جنوب العراق». وهنا تجدر الإشارة إلى أنه منذ بدء الحرب على العراق وصدور التقارير عن سرقة المواقع الأثرية بشكل مكثّف، بدأ علماء الآثار في الولايات المتحدة البحث في إمكان تحديد مدى السرقة وتنافست معاهدها العلمية الأكبر على الوصول إلى أفضل طريقة لتحديدها. في هذا الإطار، انفرد معهد جامعة «ستوني بروك» في نيويورك بمتابعة وتحديد مدى السرقات وفقاً لدراسة أجراها على الصور الجوية التي اشتراها من شركات الأقمار الصّناعية.
وكانت البروفسور إليزابت ستون أول من بدأ هذه الدراسة، حيث تمكّنت من تحديد عمق الحفر على المواقع وتاريخها، وخاصة أن الصور التي كانت تعمل عليها تعود إلى سنة 2004.
إلا أنها لم تستطع أن تحصل على صور أحدث لأسباب تتعلق بارتفاع ثمنها، ما حوّل الدراسة إلى «معهد دراسات الشرق الأوسط القديم» في جامعة شيكاغو.
إذاً، لم يمرّ تقرير بعثة المتحف البريطاني مرور الكرام. فقد أثار صخباً واسعاً في الإعلام الغربي الذي رأى فجأةً أن «سرقة المواقع الأثرية تعود إلى فترة حكم حزب البعث وأن السلطات الأميركية والبريطانية لم يكن لها أي دور فيها، وأن القصة لُفّقت لأسباب سياسية».
ثمانية مواقع من أصل ثمانمئة في محافظة « ذي قار» وحدها لم تتعرّض للنهب منذ أكثر من أربع سنين، هل يعني ذلك أن الوضع في جنوب العراق يتحسّن؟ قد يكون ذلك مؤشراً يثلج قلب كثير من المهتمين الذين ينتظرون بعض التحسن في هذا الإطار، لكن الخبر اليقين لن تأتي به سوى نتائج جولات ميدانية لعلماء مستقلين بعيدين كل البعد عن كلّ الجيوش: فهي وحدها الكفيلة بتأكيد واقع آثار العراق اليوم.


أوروك «المحروسة»

في سنة 1954 اكتشف علماء الآثار الألمان مدينة أوروك التاريخية، وعثروا فيها على أول كتابة عرفتها الإنسانية، واستطاعوا أن يحددوا أن تلك هي مدينة البطل الأسطوري جلجامش. وكانت إحدى أكبر المشاكل التي يواجهها أعضاء البعثة هي السرقة التي قد يتعرض لها الموقع بعد رحيلهم. إلا أنهم وجدوا حلاً لذلك بتعيينهم أحد الرجال المحترمين من العشيرة التي تقطن المنطقة حارساً على الموقع بعد عقد اتفاق بين وجهاء العشيرة يتعهدون خلاله حماية الموقع وحارسه. يتسلّم هذا الحارس راتبه الشهري من المعهد الألماني، وهو راتب لم يتأخر المعهد عن تسديده ولا يوماً واحداً منذ أكثر من 50 عاماً، حتى خلال الحصار والأيام الأصعب التي عرفها العراق. وقد سمح الراتب الشهري بتحسين وضع الحارس المادي والاجتماعي، فهو اليوم من وجهاء العشيرة التي أضحى أمن الموقع بالنسبة إليها مسؤولية تمسّ بشرفها.


إضاءة

«مزقورة أور» في مرمى صواريخ الجماعات المسلحة


أحمد ثامر جهاد
أكدت بعض المصادر العراقية في حديث خاص لـ«الأخبار»، أن السبب الرئيسي وراء تدهور وضع مدينة أور القديمة هو اتخاذ القوات الأميركية من قاعدة الإمام علي الجوية (قاعدة طليل) مقرّاً رئيسياً لها. فقد حوّل هذا التدبير الموقع الأثري إلى مركز سياحي مشرّع الأبواب من دون أي رقيب وإلى منطقة عسكرية عرضة لسقوط عشرات الصواريخ والقذائف التي تستهدف الوجود العسكري هناك. فبين الفينة والأخرى، تنطلق صواريخ الجماعات المسلحة نحو القاعدة الأميركية، وما يضلّ طريقه منها، يقع في حرم آثار أور السومرية. فمؤخراً وقعت الصواريخ على بعد 50 متراً فقط من زقورة أور، أي المعبد السومري. وتحت شعار تحصين الذات، تمنع القوات الأميركية العراقيين من دخول الموقع والتأكد من حجم الأضرار.


«عسكرة» المواقع الأثرية؟

أكد تقرير البعثة البريطانية أن الأضرار الناجمة من الوجود العسكري على المواقع الأثرية في جنوب العراق ينحصر بموقعَي: أم اللحم، ومدينة أور. فالموقع الأول كان على وشك التحوّل إلى ثكنة عسكرية لولا الحملة الواسعة من الانتقادات داخل الولايات المتحدة التي أدت الى إفشال المشروع، إلا أن أكياس نفايات الجنود وبقايا معلّبات طعامهم لا تزال مرميّة في أرجاء الموقع. أما بالنسبة إلى مدينة أور، فالوضع أخطر بكثير إذ إن الموقع الأثري يقع ضمن حرم المركز العسكري الأميركي ما يمنع علماء الآثار من الدخول إليه والعمل على ترميم جدرانه المبنية من الطين التي تتزعزع كل يوم بسبب تحرك الآليات العسكرية من حولها. هذا إضافةً إلى أن الموقع يعدّ المتنزّه الوحيد لكلّ القوى العسكرية العاملة في تلك القاعدة، فيزورونه كل يوم ويطوفون في أرجائه.