محمد سيد رصاص *كان من الواضح أن حركة الولايات المتحدة تتجه إلى تطويق روسيا لمنعها من أخذ وضعية المهدد من جديد للغرب، كما كانت في مرحلة ما بعد ثورة 1917 وبالذات بعد عام 1945. كما أن غزوها لأفغانستان والعراق، واتجاهها للسيطرة (أو احتواء) على إيران، يعني اتجاهاً لتطويق روسيا من الجنوب بعدما استكمل ذلك في شرق أوروبا ووسطها وفي أغلب القوقاز، وهو ما كان يعني اقتحام البيت الروسي الداخلي، بدءاً من ثُغر وشقوق مثل التوابع (أوسيتيا الجنوبية والشيشان).
كان الصرب القومية الثانية المستهدفة من جانب الأميركيين، إلا أنهم لم يكونوا في قائمة الاستهداف بسبب دورهم التاريخي في القرنين التاسع عشر والعشرين، بل لكونهم قد عاشوا حالة استيقاظ قومي أخذ شكل التوسعية الهجومية على القوميات الأخرى (كرواتيا والبوسنة وألبان كوسوفو)، ما وصل إلى حدود تذكّر بألمانيا الثلاثينيات، وهو ما وصل إلى حدود التطهير العرقي المصحوب بأيديولوجية جمعت بين القومية والأرثوذكسية مع بنية حديثة قدمها شيوعيو الحزب الاشتراكي الصربي بزعامة سلوبودان ميلوسيفيتش.
كانت الحركة الأميركية، منذ «اتفاق دايتون» بشأن البوسنة في أواخر 1995، تتجه إلى منع إنشاء (صربيا الكبرى)، وإلى تحجيم قوة الامتدادات الإقليمية للزعيم الصربي، وصولاً إلى تحجيمه وإسقاطه في بلغراد، وهو ما حصل عام2000 لتعقب ذلك نهاية محددة في زنزانة محكمة العدل الدولية في السنوات اللاحقة التي شهدت انفصال الجبل الأسود عن صربيا ثم إقليم كوسوفو تحت رعاية وإشراف أميركيين وثيقين.
لم يكن العرب، وهم القومية الثالثة المستهدفة من «روما الجديدة»، في وضعية الروس ولا في تلك التي كانت للصرب ما بعد عام 1989، حيث كان بعضهم من أكثر الحلفاء المخلصين للولايات المتحدة في فترة الصراع ضد السوفيات ومن أكثر مقدمي الخدمات إليها، وخاصة في ذروة الصراع الذي حصل إثر غزو أفغانستان عام 1979.
وربما كان الإسلاميون العرب، الذين تدفقوا بعشرات الآلاف إلى هناك من أجل محاربة موسكو، هم بيضة القبّان التي حسمت صراعاً بين كتلتي الحرب الباردة استغرق أربعة عقود، أو عجَّلت في انهيار السوفيات، كما أن العرب لم يظهروا نزعات هجومية أو استيقاظ قومي أو بوادر قوة في الفترة اللاحقة لعام 1989، وحتى عندما غزا صدام حسين الكويت، وقفت الدول العربية الرئيسية الثلاث (مصر وسوريا والسعودية) ضده وأمّنت للأميركي غطاءً عربياً في حرب 1991 ضد العراق.
مع هذا، فإن الحلوى التي وعد بها الأميركي العرب مقابل «حفر الباطن» ممثلة في «مؤتمر مدريد»، لم تنتج سوى السمّ ممثلاً في أوسلو، فيما اتجهت واشنطن إلى تهميش الأدوار الإقليمية لحلفائها العرب، من مصر في أزمات السودان وفي أزمة لوكربي وفي أزمات القرن الأفريقي وصولاً إلى منعها من أي دور في آسيا العربية، إلى السعودية التي حُجّم دورها بعد الحرب الباردة ولم يكبر بالترافق مع اتجاه الولايات المتحدة إلى تكبير أدوار بعض الدول المجاورة لها مثل قطر أو اليمن التي كان موقف الولايات المتحدة في حرب انفصال الجنوب اليمني عام 1994 معاكساً لموقف الرياض التي كانت مؤيدة للانفصاليين، حلفاء موسكو.
هنا، كان حديث الأمين العام للحلف الأطلسي عام 1994 عن حلول «الخطر الأخضر مكان الأحمر»، لا يعني بنغلادش أو ماليزيا أو أنقرة بل المنطقة الممتدة بين بغداد والرباط، وهو ما تجسّد في الأجندات الأميركية عقب 11 أيلول 2001، بعد تلك الحرب القصيرة في أفغانستان، حيث كان حديث الرئيس الأميركي إثر ذاك عن «حرب صليبية» وعن «الفاشية الإسلامية» إعلاناً عن استهداف كبير لتلك المنطقة.
ويمكن ملاحظة بوضوح أنّ «مشروع الشرق الأوسط الكبير» (شباط 2004)، الآتي بعد عشرة أشهر من سقوط بغداد، هو استهداف للعروبة بذاتها مع العداء لتفسير معيّن للإسلام، وهو ما يمكن لمسه بسهولة في توجّهات (الليبرالية الجديدة) سواء في أصلها الغربي الأميركي ــ الأوروبي أو عند طبعتها الفرعية العربية.
كان شرق أوروبا ووسطها، والبلقان، والشرق الأوسط العربي، من أكثر مناطق العالم التي شهدت حركة للقطب الواحد للعالم، ومحاولة منه لاستهدافها وإعادة تنظيمها أو إعادة ترتيب أوضاعها الإقليمية، وحتى محاولة لإعادة صياغة بيوتها الداخلية ولو عبر تدخلات مباشرة أخذت أشكالاً عسكرية أو غير عسكرية. لقد عانى الصرب هزيمة مُرَّة على الأصعدة العسكرية والسياسية، إلا أنهم لم يُهزموا فكرياً أو كإرادة سياسية ضمن غالبية نُخبهم السياسية والمفكرة والمثقفة، وأيضاً ضمن غالبية بنيتهم الاجتماعية.
في موسكو، ومن خلال المثال الجورجي الأخير، من الواضح أن هناك استيقاظاً عنيفاً للقومية الروسية يمتد من أروقة الكرملين إلى النخب السياسية والمفكّرة والمثقفة، الموالية والمعارضة، وصولاً إلى الشارع.
عند العرب، تولى الإسلاميون، وبعض القوميين العرب، مقاومة الهجمة الأميركية على المنطقة العربية، إلا أن أغلب الحكام قد وقفوا معها، ومن اعترض فقد كان ذلك من موقع «الممانعة» لا «المقاومة»، فيما تحولت تيارات سياسية بغالبيتها (الماركسيون) إلى مؤدلجين جدد للأميركي الغازي لبغداد عبر لبوسهم ثوب الليبرالي الجديد، مع مشاركة أغلب الأسماء اللامعة في الصحافة والثقافة والأدب في التسويغ والأدلجة لتلك الدبابة الأميركية التي كررت ما فعله هولاكو في عام 1258.
هل هذا يعكس صورة نهائية عن أحوال الأمم؟.
* كاتب سوري