سعد اللّه مزرعاني *في موقف لا يخلو من الشبهة (فضلاً عن الرعونة والخطأ) بالنسبة للبعض في الداخل اللبناني (وبالتأكيد لمن يقف وراءهم في الخارج العربي والدولي)، جرى تلخيص «الاستراتيجية الدفاعية» التي ناقشها الاجتماع الحواري الأول يوم الأربعاء الماضي في القصر الجمهوري، بأنها محصورة في معالجة سلاح المقاومة! والمطلوب، من وجهة نظر هؤلاء، نزع هذا السلاح، لأنه تحوّل إلى سلاح فئوي، ويمثّل وجوده ازدواجية تفتئِت على حصرية أجهزة الدولة العسكرية والأمنية، في امتلاك السلاح وفي استخدامه.
يتجاهل هؤلاء، وليس عن غفلة أو عن حسن نية، الخطر الإسرائيلي الذي ترجم سابقاً في أشكال من العدوان. ويتجاهلون طبعاً، دور المقاومة اللبنانية، بشقيها الوطني والإسلامي، في تحرير الأرض اللبنانية، وفي إلحاق هزيمة بالعدو الصهيوني غير مسبوقة في الصراع العربي ـــ الإسرائيلي. ومن «الطبيعي» بالنسبة لهؤلاء أن لا يقيموا وزناً لاستمرار احتلال إسرائيل لجزء من الأراضي اللبنانية في مزارع شبعا، وتلال كفرشوبا وفي الجزء اللبناني من قرية الغجر.
هم يحمّلون سوريا مشكلة عدم تحرير هذه المناطق بسبب عدم ترسيم الحدود من جانبها. ولا يأبهون، لا بذاكرة الناس ولا بالحقائق المغايرة في هذا الصدد. وكان آخر ذلك السلوك، محاولتهم قبل أشهر وضع مزارع شبعا تحت إشراف الأمم المتحدة.
كانت تلك محاولة من البعض، بعد تحرير الأسرى، للقول إن المشكلة مع إسرائيل انتهت. تدخلت الأمم المتحدة في هذا الأمر. وحاولت وزيرة خارجية الولايات المتحدة جس النبض الإسرائيلي بشأن هذه الفكرة إذا كان ثمنها إحراج حزب الله خصوصاً، وتضييق الخناق عليه، باعتبار أن مهمة السلاح قد انتهت.
لكن الردّ الإسرائيلي كان جذرياً، كالعادة: لا انسحاب من مزراع شبعا إلا بثمن نزع سلاح المقاومة. ولقد أسقط في يد هؤلاء مؤقتاً، ليعودوا ويستأنفوا حملتهم على سلاح المقاومة وكأن شيئاً لم يحصل في الموقف الدولي أو الموقف الأميركي أو الموقف الإسرائيلي!
يمكن القول، باختصار، إن ثمة طرفاً لبنانياً، لأسباب داخلية وأخرى خارجية، يواصل اعتبار مشكلة لبنان في المقاومة ضد إسرائيل، وليس في عدوانها على لبنان الذي هو، بالنسبة إليه، مجرد رد فعل «دفاعي» ضد التحرش اللبناني أو الفلسطيني أو سواهما!
طبعاً، هذا منطق ساقط بمعنيَين: المعنى السياسي والمعنى الأخلاقي. أما الحوار الجدي فيجب أن يتناول كيفية التنسيق بين السلطة والمقاومة وبين السلاح الشعبي والسلاح الشرعي (الرسمي)، في كيفية خوض المعركة ضد العدو الصهيوني وحماته. وهذه معركة، بالفعل، ذات طابع دفاعي، لأن إسرائيل تواصل احتلال أجزاء من الأراضي اللبنانية، ولأنها أيضاً تواصل انتهاك أجوائنا وتستفز مواطنينا وتتهدد بلدنا وشعبنا بالانتقام وبالعدوان، ما أن تتوافر لها الظروف الداخلية والخارجية الملائمة.
وفي مجرى هذا الحوار، لا بد من الانطلاق من أنّ لبنان الرسمي بقواه وإمكاناته وموارده الراهنة عاجز، حتى لو شاءت سلطته، عن تأمين الحد الضروري من موجبات الدفاع في وجه القوات الإسرائيلية في حالة العدوان. وهو عاجز بالطبع عن القيام بأعباء وبمهمة التحرير، نظراً لاختلال التوازن، بكل أبعاده الاستراتيجية، ما بين الدولة الصهيونية وبين لبنان. وليست الأمور على هذا النحو بالنسبة للمقاومة. ولا داعي لسوق البراهين ولتكرارها، من زاوية القدرة على التعامل مع العدوان الإسرائيلي وصولاً إلى إمكان تحرير ما بقي من أرضنا المحتلة، انتهاءً بالتهديدات والاستعدادات الإسرائيلية المتواصلة لشن عملية عسكرية كبيرة ضد لبنان ومقاومته وشعبه في تشرين الأول المقبل كما يقال (لا يتردد دبلوماسيون غربيون في تحديد مواعيد للعدوان. وقد سبق لوزير الخارجية الفرنسي أن حمل ما يشبه التهديدات من الحكومة الإسرائيلية، مصراً على ضرورة أخذها على محمل الجد. ولم يخبرنا برنار كوشنير ماذا ستفعل فرنسا الدولة السوبر ـــ صديقة للبنان، لمنع العدوان ولدفع القيادة الإسرائيلية لتنفيذ القرارات الدولية التي تطالبها بالانسحاب من الأراضي اللبنانية (القرار 1701).
ومن البديهي أن تنطلق الاستراتيجية الدفاعية من مبدأ توحيد الجهدين الرسمي والشعبي، كل في ميدانه، وباستثمار خصوصيات وأفضليات الموقعين وتفعيلها، في سبيل تعزيز الصمود اللبناني.
غير أنه، في ظروف لبنان المعقدة والاستثنائية، لا تسير الأمور على هذا النحو. ومعروف تماماً أن ما ينطوي عليه نظام علاقات اللبنانيين، في ما بينهم، (مكرساً في نظامهم السياسي الطائفي) من خلل، يحول دون تنفيذ هذه المهمة الوطنية الكبيرة والمصيرية.
إن النظام الطائفي هو، واقعياً، مصدر انقسام مرضي بين اللبنانيين. وهذا الأمر سابق على أي اعتبار آخر. فكيف إذا انعقد هذا الانقسام الداخلي على انقسامات الخارج وصراعاته على النحو الذي تعيشه الأوضاع الإقليمية والدولية (وخصوصاً منذ الغزو الأميركي للعراق حتى اليوم).
ويؤدي هذا الانقسام إلى تشويه جملة كاملة من المسائل، ومن التعاطي مع هذه المسائل. ومن ذلك مثلاً العلاقة مع الخارج، وتحديد الصديق والعدو. وتقدم التجربة اللبنانية («الفريدة» كما يراها البعض معجباً!) نماذج مأساوية من الصراعات والانقسامات في كل المراحل الانعطافية في المنطقة.
بعض هذه النماذج اتّخذ، دورياً تقريباً، صيغة حروب أهلية، و«الحبل على الجرار»! والتاريخ، للأسف، يعيد نفسه، ولو بأشكال أكثر مأساوية. فجذور ما حصل اليوم قائمة في «صيغة» لبنان الطائفية. ولقد اضطر المرحوم بيار الجميل عام 1984، إلى مخاطبة المؤتمرين في مدينة لوزان السويسرية (وكانوا أبرز زعماء البلاد والعباد وقادة الميلشيات وأمراء الحرب آنذاك) بالقول: «إذا لم نتفق، فئة تذهب مع سوريا وفئة تذهب مع إسرائيل... هناك جماعة عن اقتناع بعد كل الذي صار... بدهم إسرائيل... أقولها بكل صراحة (كتاب «جنيف ـــ لوزان المحاضر السرية الكاملة»، المركز العربي للمعلومات، أيار 1948).
لم يكن الشيخ بيار عميلاً، لكنه كان ابن «الصيغة» الطائفية وأبرز المدافعين عنها وأبرز... ضحاياها أيضاً!
لا يستقيم عمل وطني لبناني شامل بحجم إقرار «استراتيجية دفاعية»، بدون معالجة الخلل في نظامنا السياسي. وهو خلل يتداعى الى أزمات إضافية، من عناوينها عدم الاستقرار وتصدّع الوحدة الوطنية وإضعاف دور المؤسسات المرجعية أو حتى إسقاطها (مجلس النواب، مجلس الوزراء، القضاء، الجيش...).
وكان لافتاً الاستنتاج الذي توصل إليه وأعلنه أحد المحاورين وهو صاحب «النهار» النائب غسان التويني حين طالب المتحاورين بالمباشرة في تأليف «الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية» التي نص عليها الدستور اللبناني (المادة 95 منه).
وتدل إشارات عديدة على أنّ ظروفاً وشروطاً لبنانية تتراكم أكثر من السابق لتعزيز نسبة العامل اللبناني في تقرير مسار الأزمة التي يمر بها بلدنا. ولا تأخذ هذه العملية مداها الضروري، إلا من خلال الانخراط في الإصلاح الذي يؤمّن قيام دولة عز بناؤها منذ الاستقلال حتى اليوم.
موضوع الإصلاح ليس ترفاً. إنه في ظروف لبنان، حاجة مصيرية، ليس فقط من أجل التصدي الناجح للاعتداءات الإسرائيلية، بل قبل هذا وبعده، من أجل مواجهة الخلل الخطير القائم في صلب نظامنا السياسي وفي علاقاتنا الداخلية. إنه خلل، كما ذكرنا، مولد للانقسام ومهدد للوحدة الوطنية ومشتت للطاقات الوطنية ومضعف للاقتصاد وللنمو...
المطلوب، باختصار، كما جاء في بيان المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني بمناسبة ذكرى تأسيس جبهة المقاومة الوطنية، رفع أداء الدولة إلى مستوى أداء المقاومة، لا إغراقها في زواريب الانقسامات الطائفية والمذهبية والولاءات الخارجية التي لا تستند إلى مصلحة وطنية!
* كاتب وسياسي لبناني