رامي خريسمرّت كأنها لحظة، رغم أنها لحظة واسعة كثيفة الدلالات والمعاني. أُنظر إلى الفريق الذي قاد عملية التفاوض وصولاً للاتفاق «التاريخي». ما زال هو هو. لم تستطع السنوات الخمس عشرة أن تُغيّره رغم ما مر من هزّات وحروب واحتلالات وانتصارات. الفارق بين ما كان وما هو الأمر عليه الآن هو مسحة التفاؤل. المفاوض الذي كان يبشّر قبل 15 عاماً بعصر سلام جديد ينهي معاناة الفلسطينيين، هو ذاته الذي يتحدّث الآن بقدر كبير من التشاؤم عن الصعوبة في إنجاز اتفاق سلام ينهي المعاناة نفسها!ليس الأمر على هذا القدر من السوء فحسب، ففي الجانب المقابل، أي في المعسكر المناوئ لمشروع التسوية، لم تستطع المقاومة الفلسطينية أن تنجز حتى مهمّة صياغة برنامجها السياسي المتكامل. وحين نتحدث عن البرنامج السياسي لحركة مقاومة، فإننا نتحدث عن إدارة الصراع، واختصاراً: عن الطريقة التي يجب أن تدار بها المفاوضات والأساليب التي يمكن بواسطتها تزخيم عوامل القوّة وتحسين الشروط فيها.
إنّها لوحة بائسة وقاتمة؛ 15 عاماً لم تحفل إلا بمزيد من تمسّك المفاوضين بمفاوضاتهم، وإعادة إنتاج المقاومة لأزماتها الذاتية وفشلها في استيعاب الضرورات التاريخية لكل مرحلة من عمر النضال الوطني. لكل ما تقدّم يمكن القول إنّ المرحلة السابقة على امتدادها كانت مرحلة «فقر الخيارات» بامتياز.
إلّا أن الأهم هو ما تجلى في الواقع العياني خلال هذه السنوات. دأبت إسرائيل على سياسة استيطانية مبرمجة تهدف إلى الاستيلاء على ما بقي من أراضي الضفّة الغربية، مجال مشروعها الاستيطاني الحيوي، واستخدمت إلى جانب ذلك سياسة العزل والضم ما أحال الضفة الغربيّة إلى كانتونات ومعازل يستحيل فيها حتى تحقيق «رؤية بوش» (حسب تعبير السيّد صائب عريقات) للسلام، وهو ما يعني فعلياً أنّ الحل الممكن في ضوء ما هو موجود الآن لا يمكن إلا أن يراوح بين «الكانتون» والدولة، كما هي الحال بالنسبة إلى خيارات الفلسطينيين، إذ انتفت كل الشروط الموضوعية لقيام دولة مستقلّة في حدود 1967، فيما لم تنضج بعد الظروف الذاتية لإطلاق برنامج تاريخي يرى في الدولة الواحدة الديموقراطية حلاً نهائياًَ وأخيراً للصراع. هكذا إذن يبدو الفلسطينيون معلّقين في الهواء، في لحظة تاريخية صعبة تضغط فيها عليهم سطوة الجغرافيا والسياسة والعجز.
كان شعار اتفاق أوسلو «غزّة ــ أريحا أولاً»، كبرنامج عمل فلسطيني إسرائيلي يقضي بانسحاب قوات الاحتلال من هاتين المدينتين كمقدمة لسيطرة الفلسطينيين عليهما. واليوم، بعد عقد ونصف عقد، تحوّل الشعار ذاته إلى برنامج عمل فلسطيني داخلي، لاستعادة الوحدة بين المدينتين اللتين تحولتا بحكم الأزمة الفلسطينية إلى دولتين منفصلتين بكل المعاني!.
ذهبت المقاومة الفلسطينية، التي أصبحت حركة إسلامية واسعة، لإنشاء ولايتها الخاصة في غزّة والتي لم تتحوّل لـ«هانوي» عربيّة، بل إلى مكان لإعادة تكوين السلطة وممارستها، وبقيت رام الله مكاناً يرمز إلى السلطة التي جاءت عبر «أوسلو»، وهي السلطة التي يبلغ مدى سيادتها كيلومتراً مربعاً واحداً هي المساحة المحيطة بمقر قيادة السلطة الفلسطينية هناك.
وفي المحصّلة، فقد بدا الفلسطينيون أكثر ميلاً لصياغة علاقات السلطة وممارستها من خلال إنجاز برنامجهم الخلاصي، حتى وهم تحت الاحتلال.
لم تكشف «مرحلة أوسلو» سياسة إسرائيل العدائية وانحياز أميركا المفرط لهذه
السياسة فقط، بل كشفت أيضاً عورات الفلسطينيين جميعاً، وعجز قيادتهم وسوءها وحدود إمكاناتها. وقد اجتمعت عوامل القوّة الإسرائيلية إلى جانب العجز الفلسطيني لتخلق هذا الواقع الصعب الذي بدأت عناوينه تتضح: تصفية القضية الوطنيّة، ومنح الفلسطينيين الإدارة على المعازل المقطعة الأوصال، وهي إدارة أقل سقفاً بكثير من إدارة «الحكم الذاتي الإداري المحدود»!