أنسي الحاج
عند الحدود

النسيان مسعفٌ لإعادة المطالعة. وإلاّ فماذا كنّا نفعل؟ النسيان والإدمان. الثاني خصوصاً. أعيد مطالعة بعض جان بول سارتر المتاح لي، فألاحظ، بدون تضليل الانبهار هذه المرّة، مدى كراهيته. مقالات انتقد فيها، مثلاً، جيرودو ومورياك وكامو وباتاي وبلانشو، وفوقهم كتابه عن بودلير. شرّ مُروَّس حاسد هازئ. ذكاءٌ شمولي حذافيري يَحرق حرقاً. بعبارة من كلمتين يوجز رجلاً، يختصر سيرة. يكرج كرج النار في الهشيم. يَفْضح، ينخر، وأحياناً يجيد ويبدع في هتك عرض النفخ حيث هو مصطنع، والحذلقة والتماجُن الناشز و«التمثيل» وتدليع الذات، فضلاً عن التحنُّط.
في كتابه عن بودلير تَحامُل وخَلْط، ولكنْ يُحفظ له «تطاوله» على هذا المقدَّس الرجيم، وتوغّله حيث لم يصل قبله أحد، على الأخصّ للناحية النفسيّة ـــــ الطبعيّة. ويتوقف شرّ سارتر عند حدود الحضور الشعري العاصي على أشعّة العقل، فآثار بودلير طاغية ولا يَقْدر شاطر مهما كان خارقاً على تبويخها.
غير أن حيويّة الكتابة السارتريّة، رغم انكشاف دوافع صاحبها المغرضة أحياناً، تقودنا إلى تكرار التساؤل عن الترابط بين الشرّ والموهبة وبين الغيرة والتقدّم وبين الفتنة والتجدُّد.
بودلير نفسه، على عذاباته، كان شرّيراً. طفلاً وشرّيراً. دون التوقّف عند الآخرين المذكورين آنفاً، فشأنهم في هذا ثانوي. المتنبي شرّير. الجاحظ. أحمد فارس الشدياق. ساد (طبعاً). رمبو. لوتريامون. دوستيوفسكي. نيتشه. سيلين. اللورد بايرون. أوسكار وايلد (الأوّل). أراغون. سيوران. القائمة طويلة، بدءاً من الإغريق، إضافة إلى مؤلّفي أساطير خَلْق العالم، أول زارعين لبذور الساديّة المُطْلَقَة.
يستمتع القارئ بمطالعة أدب شرّير لأنه يُفْرج فيه عن بعض شياطينه، ولأن الشرّ ولاّعة الملل. والشرّ، ونموذجه السارتري قريب جداً مما نقول، نبّاش نكّاش دسّاس، لا يريحك إلى مُريح لأنه هو يضجر من كل إقامة، فيجرفك معه، إذا رغبت، في زوبعة من الحَكّ لا تنتهي من فريسة حتّى تنقضّ على فريسة. وإذا قلتَ لهؤلاء «أنتم شياطين أعوذ بالله» أجابوك أن الشيطان أبو التجديد ولولاه لاستبدّ الطغيان. ويضيفون أن السلوى ـــــ والعقل الشيطاني يتسلّى ـــــ تذوي إن هي التزمتْ الصراط المستقيم، وأَنَّ الهتك والهدم من أدوات الشرّير وخدماته للتعامي عن فاجعة الأحياء السائرين بهمّة ونشاط إلى الموت. ومن لطائف الشرّير، يقولون أيضاً، أنه يدعو الآخرين إلى وليمته ولا يحتكرها، فالرذيلة أكثر سخاءً من الفضيلة.

الكتابة النقديّة السارتريّة السّيئة النيّة، النمّامة الخبيثة، تستهوي وتُنعش. فيها، إلى جانب ما يُنشّف القلب ويكزكز الأسنان، ما يقول، بإقناعٍ في الغالب، إن الأدب ليس هذا التكلّف الذي يريدون به التظاهر وكأنهم أنبياء، ولا هذا الاستنساخ المموّه بدهان أصالة مزوّرة، ولا هذه الرصانة الكاذبة التي إنْ داعبتَ جلْدها عن قرب، تفتّقتْ عن ضحك يُشقّق جفصين وقارها. بكلمة: سارتر حرب على الرياء، ولا يصمد أمام هجماته إلاّ ما يصمد أمام الهجمات، كبودلير. ولا يُقلّل من عنف هدميّته مجاملات يلقيها هنا وهناك ليجعل ضرباته تبدو موضوعيّة وليرفع عن نفسه شبهة الغيرة والبغض، مثل وصفه كتاب «الغريب» لكامو بـ«الجميل»، بعد أيام من نشره دراسة عنه تُنَتّفه تنتيفاً. لا أحب سارتر، كما أني لا أحب علاج الأشعّة، فكلاهما كاشف غالباً بعد فوات الأوان، ونوع كشفه لا يرى إلاّ ما يراه العقل الشاطر أو العلمي، وهما فاعلان في حدود تُظهر براعتهما ولا تشفي من عضال كما لا تَرْقى فوق ما تنتقده. نقد سارتر قد يَهْدم ما يستحق الهدم ولكنه هو، في خَلْقه، ليس أفضل ممّا يَهْدم.
ومع هذا حين تنتهي من قراءته وتريد الانتقال إلى سواه ستبدو، على الأرجح، كمَن ينتقل من حفل متلألئ بالألسن المشحوذة إلى رواق كئيب في مدرسة داخليّة. تلك إحدى جاذبيّات «الشرّير»، حفظه الله.

... ربما تقضي الحصافة بالدعوة إلى بوتقة ينصهر فيها المتعارضان (المتكاملان)، إلى كاتب يكابد الشرّ ويَخْلُص إلى الخير. لكنّ التجربة الحيّة لا تُملى نظرياً. الحياة ليست أفلاطونيّة. والفيلسوف لا يبحث عن الحقيقة، كما يُصحّح نيتشه، بل هو «يسعى إلى أَنْسَنة الكون. عَبْر وعيه لذاته يحاول أن يَفْهم العالم. يكافح لتحقيق هذا الاستيعاب (...) وكما أن المُنجّم يرى الكون في خدمة الأفراد، كذلك يرى الفيلسوف إلى العالم كأنما هو كائن بَشَريّ».
خَرَجنا من الموضوع. يقف هذا البحث عند حدود الجَمال. لا خير ولا شرّ بل غيرهما. يقال الحقّ والخير والجمال، ثلاثة أقانيم في مِثال واحد. يبدو لي أنَّ الجمال هو على حدة، ومن التمدّد اللفظي الاعتباطي ربطه بالحقّ والخير. إن هذا يُعتّم على السحر الخاص به، وغير المنصوص عنه في القيمتين الأخريين. الحقّ جليل والخير طيّب أمّا الجمال فمن كوكبٍ آخر، بل هو كوكب آخر. «اركضْ أسرع من الجَمال»، يقول جان كوكتو. حرفيّاً: «الركضُ ركضاً أسرع من الجَمال». ماذا يقصد؟ الهرب أم اللحاق؟ أم السباق نحو هدف آخر؟ لعلّه يوحي أن الجمال سيفترسك.
يقف هذا البحث عند حدود الجمال البشري والفنّي. لا خير ولا شرّ في وجه الجوكوندا. ولا في موسيقى موزار. ولا في وجه معشوقتك وساقيها. لا خير ولا شرّ في وجه الطفل. البراءة اللامسؤولة والجاذب الباهر والخَلْق الساحر والعافية المتدفّقة هي وراء الخير والشرّ، أمامَهما، فوقهما. يقول سارتر: «الشرّ لا يغلبه إلاّ شرّ آخر». منطق لولبي لا يُخرجنا من الدوّامة بل يُجذّرها. ولكنْ لمَ الخروج؟ إذا كانت الغاية هي الالتهاء عن المشكلة، فالمطلوب استمرار اللعبة، مع تنويعها حتّى لا ينفر اللاعبون من الرتابة أو ينتبهوا إلى الخدعة. بالتأكيد هذا هو الغرض، وأحاديث التسامي والتصوّف ما هي بأكثر من عَزْف لألحان أخرى على الأوتار ذاتها.
لكنّها ثرثرة، ووحدها لسعة الجَمال توقف هذه الثرثرة. تَسْحق طاحونة العقل وتصعقه بما يقطع عليه سفسطته. ليس الشرّ الآخر هو ما يغلب الشرّ الأوّل، ولا الخير طبعاً، الخير المهيض الجناح، بل تجلّي الجمال.
سَمِّهِ اللّه، ولكنْ مَن رأى الله؟ الجمال مجبول بالزمن، وهذا هو ما يَعْقص القلب: عندما يستحيل جزء من الزمنِ أبديّاً، مع بقائه مغموراً بالزمن عدوّه، وبأعدائه من عشّاقه أنفسهم.
مرّةً أخرى، معجزة الإنسان هي أنّه أجاب على ظلم الحياة له بخَلْق حياةٍ أجمل منها.

وراء الستار

تمرّ بنا الثواني الخالدة كما تمرّ الشمس بالثَّمَر، وتمرّ تلك الخاوية كما ينزل الفراغ في الفراغ. ما أفدح الإنسان! يرى الأبديّات في عرض الزوال! ويقبض عليها، ويُسمّرها، ويذهب وتبقى...
لماذا، لماذا يَلْمَح الإنسان تلك الأبديّات بين ثنايا شلاّل الزوال؟ أما كان أهنأ لو لم يشرّع رأسه إلاّ لتيّارات الفراغ يطرد الواحد منها الآخر ويظل البيت تحت مَضْرب الرياح تنظّفه كلّما تَغَبَّر؟
تلك الذات الواجبة الوجود التي كانت تقف وراء الستار قبل أن تعطي إشارة بدء التمثيل، تلك المشيئة السبّاقة، تلك الذات لم تَخْلق الإنسان لتخلق كائناً يحيا ويسعد ويشقى ويموت، بل لتخرج هي من ذاتها، لتلقي بنفسها في أتون الخطر، علّها تحظى باكتشافٍ يؤنِسُها، ويوازيها ألوهةً.
نحن مجازفةُ غيرِنا.

يأسركَ نظرك

حتّى الجميل المضطرب، الزئبقي، حتّى هذا ذو ثبات، إن لم يكن في محض ذاته ففي ذهن المأخوذ به. هناك في الجمال الزائل نفسه رسوخ، رسوخ لهاجس، لذكرى، لطَيفٍ باتَ كفردوسٍ ضائع. بعض الجمال كلّما تَفلَّتَ وتاه ازداد تمكُّناً من فريسته. والجمال الصاعق ليس ذاك الخلاّب من النظرة الأولى فحسب، بل أقوى منه ذلك الذي لا تأبه له في البداية، يتسلّل إليكَ رويداً رويداً، يتأهّل ويفرش بيته، حتّى لتصبح أنتَ مقيماً عنده فيك...
وغيرُ صحيحٍ أن الجمال واحد فيما البشاعة متعدّدة، الجمال أيضاً متعدّد، وما يسحرك أنت قد ينفّر جارك، وأمّا الجمال المُطْلَق، المعمَّم، المشترك، فقد تجده أنتَ قدوة وأجده أنا قديماً مملّاً. بل هو كذلك فعلاً. الجمال ينبض بالجديد وبـ«الخاص». الِجدَّةُ فَخُّه والخصوصيّة انفراده بكَ وانفرادك به. في الجمال المعمَّم المشترك شيء مثل غرفة هاتف للعموم، مثل فَرْضٍ مدرسيّ. يأسرك نظركَ إلى الجميل لا درع التثبيت التي يُغدقها عليه التكريس العام.

أسمهان

يعطي مسلسل «أسمهان» التلفزيوني فكرة عن معاناة المرأة الحرّة في المجتمعات العربيّة العشائريّة. رغم مُداراته للكثير من الحساسيات التي حالت قبل الآن دون معالجة هذا الموضوع وسواه معالجة صريحة، يفتح المسلسل الباب أمام كلام ممنوع حان وقته. لقد ذهبت أسمهان، بشكل أو بآخر، ضحيّة البيئة الذكوريّة، ويكاد يكون شقيقها فريد الأطرش الرجل الوحيد الذي أعطاها ما تحتاج إليه من رعاية ومحبّة خالصتين، ولولاه لربّما ما استطاعت أن تُغنّي، على قلّة ما غَنَّت.
ليس بين الفنّانات العربيّات مَنْ يستحقّ أكثر من أسمهان لقب الفدائيّة: لقد فدت فنّها بحياتها وفدت حياتها بالإخلاص لنفسها حتّى الموت.