كعشيقتين تتنافسان على قلب واحد، هكذا كانت الحال دائماً بين موسكو وسان بطرسبرغ. وهكذا هي حال المدينتين الروسيتين اليوم حتى بعد القيصر والغزوات والحروب والثورة الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفياتي
موسكو ــ صباح أيوب
تبادلت موسكو وسان بطرسبرغ الأدوار الرئيسية على مرّ التاريخ، ولا تزال كل منهما تسعى إلى احتلال المكان الأول في «قلب» الجمهورية الفدرالية الروسية. لكل منهما خصوصيتها وطابعها وجمالها. والجهد المبذول للفت الأنظار وسلب القلوب يحقق نجاحاً باهراً، إذ بات من السهل جداً أن تغرم بالمدينتين معاً، لكن من الصعب أن تختار من هي العشيقة الأقرب إلى قلبك! موسكو أو «موسكفا» كما يناديها أهلها هي العاصمة، وهي أكبر مدينة في روسيا وأوروبا بأكملها. المدينة المبنية على ضفاف نهر «موسكفا» والمسماة تيمناً به، احتفلت بالذكرى 861 لتأسيسها أوائل الشهر الجاري.
موسكو، تدرك أنها ليست العشيقة الوحيدة للامبراطورية الروسية، ولم تنفرد بمركز السلطة على مرّ التاريخ، فقد انتزعت سان بطرسبرغ منها اللقب عام 1712 (في عهد القيصر بطرس الأول) ثم عام 1732 لغاية 1918 عندما «نصّبت» موسكو عاصمة روسيا السوفياتية وهي لا تزال في منصبها لغاية اليوم. لكن المدينة الحمراء تدرك أيضاً أنها الساحة الخالدة، و«المدينة البطلة»*، ومقرّ الجيش الأحمر ومرقد لينين وأنفاق ستالين... لها خصوصيّاتها وتحاول أن تحافظ عليها رغم تطور الحياة فيها سريعاً. العاصمة الروسية اختارت لنفسها أخيراً نمط الحياة السريعة والعملية. هي اليوم كخلية نحل منظمة تعجّ برجال الأعمال والمؤسسات والشركات الاقتصادية الكبرى. وهي أغلى مدينة في العالم لعامي 2006 و 2007 كما أظهرت الدراسات. قد تتفاجأ مثلاً بكمية السيارات الحديثة وكثافة الماركات التجارية العالمية في أسواقها، وقد يكون «ماكدونالدز» آخر ما تتمنى أن تراه لدى خروجك من محطة مترو ستالين. لكن المدينة التي أحرقها سكانها كي لا يتمكن نابوليون من دخولها ليست سهلة المنال. ورغم انفتاحها على الأسواق الغربية واعتمادها الاقتصاد الحر، إلا أنّ الموروث الثقافي الروسي في العادات والتقاليد وطريقة التفكير وتربية الأجيال لا يزال موجوداً في حياة مختلف طبقات المجتمع. الشباب الذين تبنّوا الانفتاح ما زالوا يسيطرون على جموحه. والانطباع الذي يمكن أن تكوّنه عن العاصمة وأهلها هو أن «ماكدونالدز» و«ديور» و«سامسونغ» ليست جزءاً من حياة الموسكوفيين بل مجرد ظواهر جديدة جديرة بالتجربة. رغم قساوة العيش فيها ونمطها السريع، لموسكو حياة ليلية صاخبة، سكانها يرقصون رقصاتهم الروسية على إيقاع أحدث الأغاني الأميركية... تكثر في موسكو الأعراس والزيجات، وليست «أشجار الحبّ» المنتصبة على جسر «لوزكوف» حيث يضع الأزواج حبهم في قفل ويرمون مفتاحه في النهر، إلا دليلاً على إقبال الشباب الروس بكثافة على الزواج.
8 ساعات في القطار تفصل موسكو عن «ضرّتها» سان بطرسبرغ. المدينة الشمالية التي أسسها القيصر بطرس الأول عام 1703 حوّلها إلى عاصمة لامبراطوريته عام 1712، ناقلاً بذلك مركز السلطة من موسكو إليها. لكن المدينة الجميلة تلك، رغبها الجميع والكل أراد أن يجعلها مدينته فأطلق عليها اسمه. حملت سان بطرسبرغ اسم «بتروغراد» أيام الغزو النازي في الحرب العالمية الثانية، ثم اسم «لينينغراد» أيام الاتحاد السوفياتي، لتعود إلى اسمها الأصلي منذ 1991. وبعد أكثر من 200 عام على احتضان السلطة، أعادت المدينة مركز العاصمة إلى موسكو عام 1918. سان بطرسبرغ تعتمد اليوم نمطاً معاكساً لحياة موسكو. حياتها عملية صحيح، لكن دون أن يفقدها ذلك حيوية المارّة وانتشار المتسكعين وزحمة المتسوقين في شوارعها العريضة. هي مدينة الأحلام في حدائقها وغاباتها الصغيرة المنتشرة على ضفاف نهر «نيفا»، وهي الأحياء والأزقّة الصغيرة في المدينة الرحبة، وهي جسور المواعيد الحميمة وتلك الضخمة لتمرير السفن، هي القيصر ولينين في آن... فللقيصر تماثيله وحدائقه وقصره، وللينين باراته وشوارعه وشعلته التي لا تنطفئ. المدينة التي شهدت أطول حصار من جانب النازيين في الحرب العالمية الثانية، شُوّه جمالها مرات عدة، لكنها في كل مرة كانت تستعيد حلتها القديمة المجددة دون تعب أو استسلام.
أن تصل إلى سان بطرسبرغ في صباح الأول من أيلول، هي رواية أخرى ومشهد استثنائي: شباب بالزي العسكري متوجهون إلى الخدمة، رجال أعمال، أطفال في يومهم المدرسي الأول برفقة أهلهم وأجدادهم، طلاب، رياضيون، عجائز، تجار وأصحاب محال... والجامع بين الناس شيء واحد: باقات الزهور. الكل يحمل باقة زهور، الكل دون استثناء. هو تقليد سائد وقديم في روسيا، يقضي بأن يأخذ الطلاب من كل الأعمار والمدارس باقات من الزهور في أول يوم من عامهم الدراسي لإحياء «رنّة الجرس الأولى» كما يسمونها. هو إذاً أفضل «استقبال» يمكن أن يحظى به أي واصل إلى المدينة الشمالية في صباح الأول من أيلول، فالمدينة كلها سترحب به بباقات ملوّنة. لكن هذا لن يكون الموعد الأخير مع الزهور، فسكان المدينة الرومنسية رومانسيون وسيحملون الباقات ويقدمونها إلى من يحبّون كل يوم، هكذا ومن دون مناسبة.
المدينة التي كانت تتمسك بآخر إطلالات الشمس قبل حلول الشتاء، نبضت بالحياة في كل أنحائها، شوارع ممتلئة دون أن تكون مكتظة على مدى ساعات النهار الطويل. فسكان المدينة يملأون الشوارع، والعشاق يقطنون الجسور، والأصدقاء يلتقون على طول شارع «نيفسكي» أحد الشوارع الأساسية في عاصمة القياصرة. حياة اجتماعية فاعلة ومظاهر غربية وأوروبية تطبع اللباس والمحال دون أن تفرض نفسها كحضارة بديلة.
تعود إلى المحطة، وها هو شاب يركض مسرعاً محاولاً اللحاق بالقطار، يمدّ يده إلى حبيبته التي التصق وجهها بنافذة المقصورة مودعة، يركض، يرسل لها القبل ويصرخ مودعاً حتى تختفي عن ناظريه...
مشهد ظننته في الأفلام السينمائية فقط، لكنها روسيا بلد العشق والحب والحياة.


«نزل لينين» يرحّب بكم!

فندق غير مصنّف بعدد نجومه، والنجمة الوحيدة التي يملكها، سوفياتية ومعلّقة في المدخل. «نزل لينين» يقصده السيّاح الشباب والرحالة من أنحاء العالم لتوفيره خدمات جيدة بسعر زهيد. يشغل أحد الطوابق في بناية سكنية ويملكه الزوجان العجوزان تانيا ودان. ساعة البهو يتوسطها لينين وستالين، وفي الممر علم أحمر يتوسطه رأس لينين، أما في المطبخ فقد علّقت ورقة فوق المجلى عليها قول موقّع من القائد الشيوعي:
«أنقذ العالم واغسل صحنك»!