سيد محمود
قبل أشهر فقط، كان الناشر المصري الشهير يعيش شيخوخةً هادئة، ويعد للاحتفال بمرور 50 سنة على تأسيس مكتبته. لكنّ محمد مدبولي فاجأ الجميع، ذات يوم، بقرار إعدام الأصول التي تملكها داره لكتابين من أعمال الكاتبة المصريّة والناشطة النسويّة الشهيرة نوال السعداوي بعد لجوئها إلى بلجيكا. والعملان ــــ رواية «سقوط الإمام» ومسرحية «الإله يقدّم استقالته من اجتماع القمة» ــــ كان «مجمع البحوث الإسلامية» التابع للأزهر أصدر بحقّهما، قبل عامين، توصيات بالمنع والمصادرة. فإذا بالحاج محمد يجد نفسه في دوامة لم تكن بالحسبان. الأزمة أعادته، من حيث لا يدري، إلى الأضواء التي انحسرت عنه في السنوات العشر الأخيرة بعد صعود دور نشر أخرى أكثر تعبيراً عن المرحلة.
الرأي العام يعرف مدبولي من خلال المعارك التي خاضها دفاعاً عن حريّة التعبير في العقود الماضية... فهل تغيّر الزمن إلى هذه الدرجة في مصر؟ يكتفي بالقول إنّها مسألة اقتناع شخصيّ. لا يحبّ الحاج أصلاً أن يتحدّث كثيراً عن اهتمامه بالشأن العام. لكنّه يستعيد معنا باعتزاز مسيرةً طويلة وشاقة في قاهرة الأربعينيات التي جاءها من الصعيد، مع والده الباحث عن فرصة عمل. بفضل أقارب يحتكرون مهنة توزيع الصحف، تمكّن من العمل مع الأب ضمن هذا المحيط العائلي. لكنّه لا يتذكّر من طفولته سوى هتافاته في شوارع القاهرة وهو ينادي على صحفها: «أخبار اليوم»، «الأهرام» و«المصري»... ولا يزال يتذكّر رحلته التي كان يبدأها من «ريف الدقي»، مروراً بـ«كازينو بديعة» محل فندق «شيراتون القاهرة» الآن، ليعبر النيل على جسر قصر النيل إلى ثكنات جنود الاحتلال الإنكليزي في ميدان الإسماعيلية/ التحرير خلف فندق «هليتون النيل»... ثم ينتهي المشوار في ميدان سليمان باشا حيث تقع مكتبته الآن.
قيام ثورة يوليو 1952 وظهور جمال عبد الناصر، كانا نقطة التحوّل الرئيسة في حياته لأكثر من سبب. عبد الناصر الذي جسّد أحلام مثقّفي الطبقة الوسطى وفقراء مصر، كان في المقابل سبباً كافياً ليُقلق راحة النخبة الأجنبية المسيطرة على الأوضاع في مصر. وهذه النخبة بالذات هي التي اضطرت لبيع أثاث منازلها ومكتباتها حين استهلّ «ناصر» مواجهته المفتوحة مع الغرب عام 1956 مع اشتعال حرب السويس التي خرج منها «بطلاً شعبياً». بعدها، خرج مئات الأجانب من القاهرة التي بدأت تفقد طابعها الكوزموبوليتي. تلك الكوزموبوليتيّة تعبّر عنها ببلاغة كل تلك الكتب التي أخذ الراحلون يبيعونها، ليذهب جزء كبير منها الى الحاج محمد مدبولي وشقيقه الراحل أحمد. كان مدبولي وشقيقه على «وعي» حقيقي بما يدور حولهما من تغييرات، تفتح الطريق أمام طبقة وسطى صاعدة تريد أن تبني ثقافتها الجديدة.
ومن الشوارع أيضاً، بدأ مدبولي رحلةً أخرى مع شقيقه لجمع الكتب الأجنبية في أحياء الأجانب، وحملها على عربة صغيرة تجرّ باليد، وتنتهي دائماً في وسط المدينة التي تصنع أحداث «العهد الجديد». وهنا بدأ مدبولي إقامة أوّل كشك لتوزبع الصحف والكتب الأجنبية.
تدريجاً، تحول الكشك إلى مكتبة لبيع الكتب العربية. وبذكائه الفطري، راح مدبولي ينسج العلاقات مع رموز المرحلة الجديدة، وسط مناخ التحول الثقافي الذي بدأته الثورة مع إصدار صحفها الجديدة ذات المحتوى اليساري. كما أدرك مغزى الاحتفاء بالفكر الوجودي لدى جيل الستينيات الأدبي الذي كان يتكوّن في المقاهي على مقربة من كشكه الشهير في الميدان. وكان أن خطا خطوته الجريئة لينتقل من موزع كتب إلى «ناشر» لترجمات من مسرح العبث، أنجزها الدكتور عبد المنعم الحفني الذي لا يزال يواصل العمل معه حتى الآن. هكذا على مرّ السنوات سيصبح مدبولي صاحب أشهر مكتبة عربية في القاهرة.
اللافت في سيرته، تلك الجرأة على خوض معارك حقيقية مع أجهزة الرقابة القوية، عبر مختلف العهود. في زمن عبد الناصر، بدأ توزيع أعمال محظورة كانت تُنشر في بيروت، وأخذ عددها يتزايد مع ارتفاع حدّة المواجهة بين النظام واليسار المصري بتشكيلاته كافةً. وفي أعقاب نكسة 1967، كانت قصيدة نزار قباني الشهيرة «هوامش على دفتر النكسة» هي الورقة الرابحة التي خرجت من عند مدبولي، لتؤجّج سخط الجماهير على النظام، وتبدأ معها متاعبه الحقيقية مع الرقابة. كذلك ولدت في الظروف نفسها «السمعة» التي لازمته على مستوى العالم العربي، بوصفه بائعاً لـ«الكتب الممنوعة».
في الفترة نفسها، انتبه مدبولي إلى ظاهرة كتّاب الستينيات الجدد، فراهن على مجموعة منهم، وبدأ نشر أعمالهم الأولى. نذكر بين هؤلاء: صلاح عيسى ويوسف القعيد وعبد الرحمن الأبنودي ومحمد عفيفي مطر وجمال الغيطاني...
وبدءاً من السبعينيات، أدرك مدبولي هوس الناس بكتب التاريخ، فبدأ نشر سلسلة أعمال مهمة بعنوان «تاريخ مصر». ومن عنده أيضاً، انطلقت ظاهرة نشر كتب المذكّرات السياسية أو «أدب الانتقام»، سواء من الملكية أو الناصرية ثم الساداتية لاحقاً. وعلى رغم ذلك، ظلّ مُخلصاً لحبّ عبد الناصر إلى درجة منعته من نشر أي كتاب معادٍ لناصر، ما عدا واحداً ألّفه المؤرخ الراحل عبد العظيم رمضان. الكتاب الذي جاء بعنوان «تحطيم الآلهة»، وكرّسه مؤلّفه بالكامل للهجوم على ناصر، يراه مدبولي اليوم «غلطة كبرى» في مسيرته. في المقابل، لم يمانع أبداً في توزيع كتب ضد الناصرية، لأنّه كما يقول «ضد الحَجر على أيّ رأي وضد منع الأفكار... وهذه مهنته. أما النشر فهو خيار».
يحلو لمدبولي أن يتذكّر «سنوات السادات» بكل ما شملته من مواجهات مع المثقفين. يقول: «من هنا انطلقت أشعار أحمد فؤاد نجم الشاعر الشعبي الذي يُعد من أبرز علامات المعارضة الثقافيّة للسادات، وكل الكتب التي وقفت ضد الصلح مع إسرائيل».
في بداية الثمانينيات، تنبّه مدبولي إلى انتشار الجاليات العربية في لندن، فغامر بافتتاح فرع لمكتبته هناك. لكن المغامرة كانت «فاشلة» بسبب «سوء إدارة الفرع» على حد تعبيره.
ومن أطرف الحكايات التي يستعيدها، دوره في تمكين كاتب بنفوذ محمد حسنين هيكل من الحصول على نسخ من مؤلفاته التي نشرها في بيروت، يوم كانت محظورة في القاهرة.
دفع مدبولي غالياً ثمن هذه الجرأة... ففي 1991، صدر حكم قضائي بسجنه بتهمة توزيع كتاب «مسافة في عقل رجل» لعلاء حامد. وهو كاتب مجهول اتُّهم بالتجديف وازدراء الأديان. لكنّ مدبولي وجد عشرات المثقفين المتضامنين معه. حتى إنّ رئيس الجمهورية استخدم سلطاته لوقف تنفيذ الحكم. لكنّ هناك أحكاماً في 24 قضية أمن دولة نُفِّذَت عبر دفع غرامات مالية، وتدور كلها حول محور واحد هو توزيع الكتب الممنوعة.
يقول مدبولي: «لا أشعر بأي حرج من الانتقادات التي وجّهت إليّ، بعد إعدام الكميات التي تملكها الدار من كتابَيْ السعداوي. لقد دافعت طويلاً عن الحرية بالأفكار التي نشرتها، وأعرف أنّ هناك مَن يقف إلى جانبي». لكن الدفاع عن الحريّة يتخذ اليوم أشكالاً مختلفة، في زمن الردّات والأصوليات وذهنيّة التحريم. والناشر العجوز الذي ينتمي إلى مرحلة ماضية، يقاوم «الزمن» على طريقته، تاركاً لآخرين أن يواصلوا المعركة الفعليّة من أجل حريّة التعبير...


5 تواريخ

1938
الولادة في محافظة الجيزة

1964
صدور أوّل كتاب عن «منشورات مدبولي» عن مسرح العبث

1983
افتتاح فرع «مدبولي» في لندن

1991
صدور حكم قضائي بسجنه بسبب توزيع كتاب «مسافة في عقل رجل»... ثم إسقاط الحكم بعد تدخّل الرئيس مبارك

2008
إعلان وقف توزيع أعمال نوال السعداوي خوفاً من أن تكون «مسيئة للذات الإلهية» ـــ الاستعدادات للاحتفال باليوبيل الذهبي لمكتبته الشهيرة في ميدان طلعت حرب.