لا تزال ذكرى الرئيس اللبناني الأسبق بشير الجميل تثير ردود فعل متناقضة عند السياسيين الذين عاصروه. وفي صفوف الشباب الذين لم يعرفوه، الأمر سيّان. فمنهم من يتحدّث عن ضياع الحلم الذي كان يجسّده. أما في المقلب الآخر، فهناك من لا يتوانى عن نعته بالعميل والسفاح
ليال حداد ـ ديما شريف
يكفي لفظ اسم بشير الجميّل أمام أحد شباب القوات اللبنانية لترى الابتسامة ترتسم على وجهه. القائد، الزعيم، المؤسّس... صفات كثيرة يطلقها هؤلاء على الجميّل، متحدّثين عن أفكار وشعارات لم يعايشوها ولكنهم حفظوا تفاصيلها مما سمعوه. «منذ كنّا صغاراً نسمع أخباراً وروايات عن الحلم. بشير كان الحلم، كان خلاص لبنان، إلى أن أتى أحدهم وقرّر إلغاء هذا الحلم»، تقول الناشطة في القوات اللبنانية ستيفاني العنداري. لا تكترث العنداري لكل الاتهامات التي يسوقها قسم من اللبنانيين ضدّ «الحلم»، فبشير قام بواجبه تجاه قضية آمن بها، «وبالحرب، كل الأطراف تعاملت مع أطراف خارجية، لذلك لا يحقّ لأحد توزيع الاتهامات يمنةً ويسرة، فلا أحد بريء في الحرب».
«لا أحد بريء»، يدرك زاهي نوح، القواتي أيضاً، ذلك جيداً، ولكن ذلك لا يمنعه من الحديث عن «عشق» المسيحيين لبشير، «لا يمكن أي شخص مسيحي إلّا أن يحبّ الشيخ بشير، فهو قبل أن يكون قواتياً كان يهمّه مشروع لبنان». ينظر نوح إلى الجميّل نظرتين متكاملتين، كما يقول، نظرة حزن «لخسارة الوطن لشخصيّة تاريخيّة يصعب تكرارها». أما النظرة الثانية، فهي نظرة فرح لأن السياق التاريخي أثبت صحّة وجهة نظر الجميّل إلى لبنان «ولأنه لو لم يضحِّ بهذا الشكل، لما وصلنا إلى التحرير الكامل الذي وصلنا إليه اليوم». أما السبب الإضافي والأساسي لهذا العشق المفترض لبشير عند المسيحيين، فهو، بحسب نوح، أنّه لم يخض حروبه من السفارات الأجنبيّة بل من وراء المتاريس، «كان بشير أول من يتقدّم المقاتلين على الجبهات، تماماً كالحكيم».
إلا أن هذه الاستمرارية في الخطّ نفسه، من الجميّل إلى سمير جعجع، تبدو غير واقعية بالنسبة إلى جو شلهوب، الناشط في التيار الوطني الحرّ، «فبنظر بعض رفاق بشير السابقين، الذين تركوا القوات، العكس صحيح، إذ إنهم رأوا أن جعجع أخذ القوات إلى مكان آخر بعيد عن الخطّ الذي رسمه بشير». لا يهتمّ شلهوب كثيراً بصورة الجميّل اليوم، فهو كان رئيساً للجمهورية وتعرّض لعملية اغتيال منذ ستّ وعشرين سنة، «لقد مثّل بشير حالة فريدة في المجتمع المسيحي وقتذاك، ولكن كل زعيم سياسي يموت يرسمون له هالة كبيرة تفوق حجمه، تماماً كما يحصل اليوم مع رفيق الحريري». وماذا عن الذين يرون أنّ ميشال عون خليفة الجميّل في الشارع المسيحي؟ ينفعل شلهوب عند هذا السؤال، فبنظره لا مجال للمقارنة: «الجنرال لا يقارن بأحد، والتاريخ سيذكر ذلك». الجنرال عمل على توحيد اللبنانيين، فيما لا تزال نتائج مجازر إهدن، والصفرا، تقصم ظهر المسيحيين حتى اليوم، يقول شلهوب.
ولكن هذا الاعتدال النسبي الموجود عند العونيين في الحديث عن الجميّل، يقابله في الجهة الأخرى، «تطرّف» من جانب ناشطي الحزب السوري القومي الاجتماعي. فهؤلاء متهمون بالانتماء إلى حزب قتل الجميّل، وهو ما يسمّيه أدونيس نصر، الناشط القومي، «تنفيذ حكم الشعب بحق الخائن». لا مشكلة لدى القوميين بهذا الاتهام، «فلو أعاد التاريخ نفسه، وكانت الظروف اليوم مشابهة لعام 1982، لكنت أؤيّد القيام بالعملية نفسها». ورغم مرور ستة وعشرين عاماً على تاريخ الاغتيال، لا تزال نظرة نصر إلى الجميّل «تماماً كنظرة حبيب الشرتوني إليه في ذلك الوقت».
يأخذ تطرّف القوميين، شكلاً مختلفاً عند الشيوعيين. كلاهما يعجز عن تصوّر الجميّل بصورة إيجابية، «يأتي مباشرة على ذهني الاجتياح الإسرائيلي، ووصوله إلى رئاسة الجمهورية على ظهر إحدى دبابات الاجتياح» كما يقول نضال حوّاط. إلا أنّ نضال يشدّد على ما يرى أنّه الجانب العنصري في شخصية بشير، ويعطي مثالاً على ذلك ما كان يحصل على الحواجز و«السبت الأسود». ببساطة، يراه نضال «قائداً فاشيّاً» لأنّه صفّى حلفاءه كي يبقى هو على الساحة المسيحيّة، «حتى شكله الخارجي كان يوحي بنوع من الشوفينية اللبنانية المقيتة».
يؤكد نضال أنّه لا يستطيع الكذب والتحدث بشاعرية عن انتهاء الحرب و«عبارة أنه يجب أن نسامح بعضنا بعضاً بما أننا كلنا لبنانيّون». فهو يرى أنّه باغتيال الجميل بدأت عملية تحطيم مشروع كان سيأخذ لبنان إلى موقع أكثر رجعية. ويضحك نضال عندما يعترف بأنّه بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006 اكتشف وجود خمسين بشير الجميّل جديداً، ما يعني أن «درب النضال طويل» للتخلص نهائياً من مشروع الانعزالية.
أما رئيس منظمة الشباب التقدّمي ريان أشقر، فرغم حالة الخصومة التي كانت تجمع حزبه بالرئيس السابق، يراه اليوم زعيماً سياسياً أدّى دوراً هاماً في لبنان وقتها. ويلفت ريان إلى أنّه رغم كون بشير الجميل رأس اليمين الذي كان الاشتراكيون يناهضونه، فلا يمكن التغاضي عن أنّ الرئيس السابق كان قائداً كبيراً.
يحترم ريان استشهاد الجميل في سبيل قضية آمن بها. فهو يرى أن مفهوم العمالة نسبي وملتبس أحياناً، والحديث عن المجازر التي حصلت في الجبل أيام حكم بشير لا ينفع. فقد باتت هذه المجازر جزءاً من الماضي وانطوت صفحتها بعد مصالحة الجبل في 2001. فالكل شارك في الحرب وأخطأ برأيه، والاعتراف بالخطأ فضيلة. وللتأكيد على ذلك، يوجّه أشقر تحية إلى رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع لأنّه اعترف بأخطاء حزبه خلال الحرب الأهلية واعتذر عنها أمس.


رفض الشخصانية

رغم صورة بشير الجميّل التي يصعب تشويهها بنظر الشباب القواتيين، يرفض هؤلاء نعتهم بـ«البشيريين» أو «الجميليين»، فـ«نحن لسنا حزباً شخصانياً ونرفض ربط تاريخ حزبنا بشخص واحد، إذ إننا نتّبع نهجاً سياسياً لا زعيماً»، يقول زاهي نوح. يوافق رئيس مصلحة طلاب القوات شربل عيد على ذلك، وإذ يلفت إلى أهمية بشير في تاريخ القوات اللبنانية ولبنان، فإنّه «لا يفصل بشير عن باقي الرفاق الشهداء».