كثيرون عرفوه في ثمانينيات القرن الماضي ممثلاً بارزاً في بغداد أيام صدّام، أو في تسعينياته مسرحيّاً عراقياً متجولاً بين المنافي. جواد الشكرجي يستأنف اليوم مسيرته الصاخبة المتعرّجة بأشكال أخرى. التلفزيون طريقه إلى نجاح مفتاحه الكوميديا... أما بطاقة تعريفه، فمونودراما شعريّة/ مسرحيّة بعنوان «عراق يا عراق»

سعد هادي
كلّما التقينا بجواد الشكرجي يسألنا: «هل شاهدتم مسرحيّتي «عراق يا عراق»؟» وحين نردّ بالنفي، يقول: «أنتم إذاً ما زلتم تجهلون الكثير عني». أما لماذا هذه المسرحية التي قدمها عام 2005 بالذات، فلأنّه يراها تلخّص كل مواهبه: أعدّ نصّها عن أشعار للسيّاب وعن مشاهد من مسرحيات سابقة، وقد أخرجها ومثّلها بمفرده. إنّها تجربته الإخراجية اليتيمة منذ ربع قرن. فمنذ 1981، اختار التمثيل وابتعد تماماً عن الإخراج. كانت مسرحيته الأخيرة «أغنية التم» لتشيخوف. لكنّه ابتعد عن الإخراج لأنّه يخلق لديه وسواساً مدمراً، ويضطرّه إلى التفكير في كل صغيرة وكبيرة آلاف المرات. وباستمرار، كانت هناك مفاجآت تنسف العمل: في مسرحية «عراق يا عراق»، يقول: «خذلني كل الذين اعتمدت عليهم: منفِّذا الموسيقى والإضاءة والراقص الذي شاركني الأداء، تركوني وحيداً في عمان وغادروا إلى جهات مجهولة. وكان عليّ أن أبدأ بطاقم جديد تماماً لتقديم العمل في تونس. كانت أمامي أربعة أيام فقط، وبذلت مجهوداً جبّاراً لأعيد ترميم انهياري الجسدي والنفسي».
نقصد جواد، ونحن غير راغبين في العودة إلى الأوزار التي يحملها من العهد الماضي، وقد كان خلاله ممثلاً معروفاً في بغداد والعالم العربي. في صالة الاستقبال في بيته، وعلى إحدى القنوات الفضائية العراقية، نشاهد معاً حلقة من مسلسله الجديد «أبو حقّي» وهو مسلسل كوميدي يؤدي فيه دور البطولة، متقمِّصاً شخصية مسؤول كبير من هذا الزمان، مع تلميح إلى امتدادات للشخصية في الماضي. وقد أثار المسلسل ردود أفعال كثيرة بين رفض وقبول. وعدَّه كثيرون تراجعاً في مسيرة الشكرجي ممثلاً. أما المسؤولون الحكوميون فقد نظروا إلى ما عُرض من حلقاته، كرسائل متطرفة في السخرية. هو يرى في المسلسل تجربةً جديدة له على صعيد الكوميديا، لم يتهيأ له أن يخوضها قبلاً. كما ينظر إليه كنقلة في مساره التلفزيوني. فبعد دوره الشهير «أبو جحيل» في مسلسل «ذئاب الليل» الذي عرض عام 1992 وتضمّن نقداً مبطّناً للنظام السابق، بتركيزه على عصابة مسلّحة تتلاعب بالناس والقانون، ها هو يعود ثانية في دور ساخر لينتقد النظام الحالي بصراحة. لا يخفي أنّ العمل أنجز بسرعة وبإمكانات بسيطة، وهو أقرب إلى لوحات كوميدية متتالية لا يربطها خيط واحد. لا يخفي أيضاً أنّه سعيد بأنّ الكثير من معجبيه ينادونه هذه الأيام «أبو حقي»، فذلك يعني أنّ الرسالة وصلت.
والشكرجي يعيد شهرته الحقيقية إلى التلفزيون. بدأ ممثلاً على المسرح في الخامسة عشرة (1966). عمل أولاً في فرقة «مسرح الصداقة» التي كان مقرّها في المركز الثقافي السوفياتي في بغداد، وقد انتمى إلى تلك الفرقة التي كانت إحدى واجهات الحزب الشيوعي الثقافية من دون أن يكون شيوعياً. واشتهر جزئياً من خلال مسرحية قدمتها الفرقة اسمها «تراب»، أدّى فيها دور البطولة وعرض فصلها الأول في التلفزيون. بينما منع محمد سعيد الصحاف حين كان مديراً للتلفزيون عرض الفصل الثاني، وأحال جميع العاملين فيها على التحقيق. هكذا عاش رعباً مستمراً لأيام. وبعد استجواب مطوّل للمؤلف والمخرج، تم إغلاق الملف، ولكن ذلك كان إيذاناً بعهد رقابي جديد. بعد شهور، فُصل الشكرجي من المدرسة لأنّ عمره تجاوز الحد المقرر ليقضي سنتين في الخدمة العسكرية. يقول إنّه أصبح في تلك الفترة مثل حصان في سباق طويل لقفز الموانع، عاد إلى الدراسة ثانية ونجح في الالتحاق بالقسم المسائي في «معهد الفنون الجميلة»... وتحوّل إلى تلميذ لزملائه الذين عمل مع أكثرهم في المسرح.
لكنّ الحكاية تكررت بعد بضع سنوات: قبل أن يُكمل دراسته عاد إلى الجبهة. فرغم أنّه أصبح نجماً تلفزيونياً وسينمائياً، اقتيد إلى الجيش خلال الحرب العراقية الإيرانية ليقضي أكثر من سنتين في إحدى جبهات القتال. وقد أدّى آنذاك، كما يقول، أجمل أدواره: «حفظت نص مسرحية «لو» من تأليف عواطف نعيم، وأنا أتنقّل بين الخنادق... ونلت عن الدور جائزة أفضل ممثل عام 1989 في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي». في الثمانينيات أيضاً، لعب الشكرجي دوراً بارزاً في فيلم «الأيام الطويلة» الذي يروي سيرة صدام حسين. كذلك أدّى دوراً رئيسياً في المسلسل التلفزيوني الذي أطلق شهرته «حرب البسوس». وتوالت أدواره بعد ذلك...
يقول: «تحملت الكثير من النقد عن الكثير من أدواري، حتى تلك التي فزت عنها بجوائز عربية كبرى. بعضهم انتقدني على تمثيلي في مسرحية «الجنة تفتح أبوابها متأخرة» التي نلت عنها جائزة أفضل ممثل في «أيام قرطاج المسرحية» عام 1999، وقد سميت جائزة القرن لأنّها جاءت في العام الأخير من القرن العشرين. أنا الآن أتعامل مع النصوص مثل الطبيب المتمرس. أعرف ما هو المرض بعد معاينة قصيرة، لا أحتاج إلا إلى قراءة بضع صفحات من أي نص لأعرف ما هو. لكن بعض النصوص يسقطها المخرجون بالضربة القاضية. في العام الماضي، لعبتُ دور الشاعر معروف الرصافي في مسلسل حمل اسمه، كان النص معقولاً. لكنّ المخرج بقلة خبرته أدخل المسلسل في متاهات ومسخ شخصية الشاعر».
هذا العام، أعاد الشكرجي تمثيل دور الرصافي في مسلسل «الباشا» الذي يروي سيرة حياة رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد. ولا يعتبر ذلك تكراراً، بل تأكيداً على علاقته بالشعر... إضافة إلى احترامه للرصافي الذي يرى أنّه نموذج ينبغي على العراقيين أن يتذكّروه الآن. هذا الشاعر الحر في السياسة والدين والحياة عاش فقيراً ومات فقيراً ورفض أن يتملّق لمحتل أو سلطة. الشكرجي كان من بين أحلامه الأولى أن يكون شاعراً وجد في قراءة الشعر بصوته ما يعوّضه عن حلمه. «كتبت بعض القصائد، لكني أجد متعتي في القراءة. أنا أعيد صياغة القصيدة ثانيةً حين ألقيها. الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد قال لي مراراً: أنت توأم روحي. وحين سمع مني قصيدته «كأنّك جرح العراق»، صرخ: إنها قصيدتك يا جواد».
ومع ذلك يبقى طريق الشعر صعباً. يشعر جواد بأن التمثيل أسهل رغم مشاكله، وخصوصاً الكوميديا:«إنّها تقرّبني من الجمهور أكثر من ذي قبل، وهي تعبير عن ميلي للمشاكسة والتغيير... «أبو حقي» قد يكون بداية جديدة لي وهو درس في الضحك النظيف الذي يقطع مع التهريج».


5 تواريخ

1951
الولادة في محلة «صبابيغ الآل»، بغداد
1966
أوّل وقفة على الخشبة في مسرحية «الغضب»
1980
مثّل في فيلم «الأيام الطويلة» من إخراج توفيق صالح
1992
دوره الشهير «أبو جحيل» في المسلسل التلفزيوني «ذئاب الليل» إخراج حسن حسني. وبعدها بثلاث سنوات كرّمته تونس في «أيام قرطاج» كأحد الذين أسهموا في إرساء أسس المسرح العربي
2007
لعب دور الشاعر الرصافي في مسلسل تلفزيوني عن حياته