جوزف ريشاإهدن أكثر من بلدة لبنانية، إنها صفحة من تاريخ لبنان المجيد، لا بل إنها مرآة لبنان بجمال طبيعتها وشموخ جبالها ودفق مياهها وعنفوان أهلها، طبعاً إن زرتها دون المرور إلى ضريح البطل اللبناني يوسف بك كرم، تكون كمَن ذهب إلى روما ولم يرَ البابا. تتقدم إلى باحة كنيسة مار جرجس في ميدان البلدة المسماة «الخالدات» فيظهر عليك البطل على صهوة فرسه شاهراً سيفه على مستوى جبينه الصنديد؛ تراه يسأل عن لبنانه الذي أحبّه عظيماً، سيداً حراً ومستقلاً:
ـــ كيف حال بيروت العاصمة، قاهرة الغزاة والزلازل التسع؟
ـــ لقد كثر إسمنتها وقلّت كرامتها يا بيك، فمفتاحها أُهدي لسيد عنجر الراحل ووجدانها في صندوق «الزيّ ما هيي».
ـــ والجبل بشطريه على طرفي طريق الشام؟
ـــ شوف الأمير فخر الدين ملهوف للتقدمية، وبعبدا وعاليه ابتلعهما الحلف الرباعي فغدر بأبنائه كما نصف التحالف، وقصر الشعب نفض عنه غبار الاجتياح الغريب الذي غطته ميليشيات الإسخريوطي وتجار الهيكل ومنافقو السيادة الآذارية.
أما طريق الشام فقد بُريَ إسفلته على جبين هؤلاء السياديين الجدد، ثوّار أرز يدعون اليوم وهم حراس عنجر والبوريفاج مع إجازة مصدّقة في الارتهان والخنوع وبدرجة ذليل أكبر... يا إلهي، ألم يتعلموا من ويلات الفتن الطائفية وتدخلات القناصل والارتهان والعمالة للخارج، الصديق منه والعدو؟
المتن نصفه موارنة ونصفه الآخر مسيحيون درجة ثانية وثالثة، هكذا شرّحه شهوانيو القرنة. وفي المتن أيضاً سفارة تأمر وتدير، تسيّر وتشير من مقرها في نيو عنجر، عوكر سابقاً. أما بلاد جبيل وكسروان مهد ثورة الفلاحين التي خنقتها الإقطاعيات العائلية والمالية والكنسية، فتتبع رأس طائفتها دينياً وتعارضه سياسياً، مؤيدة من يُشتَم على أدراجها ويُحارَب في أروقتها المظلمة. يحتار المارد الإهدني من سماع هذه الأخبار، وترتعد فرائصه وينتفض قائلاً: ألم يعد كرسيّنا البطريركي جامعاً كل زعماء المسيحيين لا فريقاً ضد الآخر؟
ألم يعد الصرح ملجأً لكل أبنائه ورافضاً لتهميشهم وترويضهم وإحباطهم وذوبان قرارهم في أوعية الوهابية والسلفية والرجعية البدوية وخوابيها؟ أكمل ماذا عن باقي أجزاء بلاد الأرز؟
الجنوب جرح دائم، من قانا العجيبة الأولى إلى بنت جبيل ومارون الراس المقاومة، شعب لبناني صامد، أبيّ ومنتصر من جهة، وعدوان صهيوني وشاي مضياف تفوح منه رائحة التواطؤ من جهة أخرى. أما البقاع فالنعرات الطائفية والمذهبية في وسطه وجنوبه، وعروسه يتودد لها أصحاب كسارات وأموال قذرة وماضٍ أقذر عبر محاولات ترغيب حرام تارةً، وترهيب بالدماء وسواطير سلفيي الحوار تارة أخرى.
لا تخف على عروسة الوادي، فالمدينة التي صمدت بوجه عواصف المحن والفتن لن تقوى عليها الزوابع الفنجانية. هات يا رجل أخبرني أخباراً سارة عن الشمال.
أوضاع شمالك البار يا يوسف بيك ليست أفضل حالاً، لا بل أشد سوءاً وخطورة، فقطّاع الطرق وفارضو الجعالات باتوا نواباً عن بعض أقضيته، وزغرتا رجالات الاستقلال والبطولة يمثلها مَن خسر ثقتها ونالها في القبة وباب التبانة.
أما طرابلس الفيحاء فالأصوليات تنخر أحياءها الفقيرة، وعدو أهلها وعروبتها ومكسر عصاها في جبل محسن جارها اللدود. أما نهر البارد فبات حاراً بدماء شهداء الشرف والتضحية والوفاء الذين سقطوا على يد جماعات إرهابية بتمويل ودعم مريب وخاتمة أكثر ريباً، أما عكار فالحرمان سمتها والنسيان علامتها، بازار شراء أصوات انتخابية وبدل خدمات، تظاهرات آذارية ومرتع لمرتكبي المجازر وللمنادين بدولة الخلافة...
نعم يا يوسف بيك، أمانتك في خطر، فالكهنوت الغربي والشرقي يحذر من ولاية الفقيه ولا يأبه للخلافة الموعودة. سياديون يرفضون المقاومة ولا يجدون في التوطين خطراً، محبون للحياة يعشقون ثقافتها ولا يهابون مرتكبي المجازر، لا عنفيون ينتقدون الحديث عن مبادلة أشلاء المحتلين بالأسرى ولا يجدون ضيراً بغزوة المتشددين لأحياء الأشرفية الآمنة. سياديون يشتمون المحتل ولكن بعد رحيله، ويستحضرون كل أنواع الوصاية الدولية. نعم يا مارد لبنان الإهدني، لقد تغيّرت بعض المصطلحات والمعايير، فالعميل بات وطنياً، والجبان محبّاً للحياة، ومقاومة الاحتلال ثقافة موت، والوحدة الوطنية معاكسة للديموقراطية، وتحقيق المشاركة الحقيقية بين العائلات اللبنانية بطولة وهمية. عفوك يا مارداً لم نحقق أحلامك، ولكن النضال مستمر والإصلاح أتٍ والتغيير في الربيع المقبل.