علاء اللامي *تمرّ في 26 أيلول 2008 الذكرى العاشرة لرحيل المفكر العراقي هادي العلوي. هذه قراءة في آخر كتاب أنجزه قبل رحيله (مدارات صوفية ـــ تراث الثورة المشاعية في الشرق) وفي كتب أخرى ذات صلة به أو حوله. في دعوته إلى ما يسميه «مشاعية القاعدة»، ميَّز العلوي بين الشيوعية والمشاعية، على اعتبار أن الأولى، التي كان يسميها ساخراً «الشيوعية المترجَمة» قد ابتُذِلَت بالتطبيقات السيئة، وخصوصاً في التجربتين الروسية والصينية. العلوي يأخذ على هاتين التجربتين، والتطبيقات الأخرى المشتقة منهما كما هي الحال مع التجربة الكوبية، أنها كانت تجارب فوقية تعتمد الأوامر والتطبيق الحرفي والجاف من جانب قيادات بعيدة عن الناس أصحاب المصلحة الحقيقية في المساواة، وبعيدة جداً عن تراث الشعوب المتراكم. لقد اعتقد العلوي أن السبب الرئيسي، إن لم يكن الأوحد، في نجاحات التجربة الشيوعية الصينية في سنوات حكم المجموعة الماوية في عهدها الأول، وفي إنقاذها مليار إنسان من الجوع والتخلف، وأخيراً في مقاومتها الطويلة والضارية للانقلاب الرأسمالي الذي قاده دنغ زياو بينغ المستمر إلى يومنا هذا، يكمن في الدمج السليم في التطبيق بين التراث الصيني المشاعي متمثلاً بالفلسفة التاوية وتجارب المجتمعات المساواتية الصينية العريقة، وبين نظرية الاقتصاد الماركسية الحديثة.
لم يكن العلوي يرى في التطبيق الاشتراكي والمشاعي نظرية علمية، أو فكراً شيوعياً علمياً، بمعنى أنه لم يكن يعطي الأولوية للبعد العلمي في النظرية والتطبيق الشيوعيَّين، بقدر ما كان يرى فيهما خياراً أخلاقياً وانحيازاً قلبياً بالدرجة الأولى. لقد ركز في أبحاثه على ما دعاه «القلبية الإنسانية» و«الإحساس الفطري بالعدالة والكرامة»، كمنطلقات وبواعث وحوافز لرفض الظلم والاستغلال الطبقي.
وقد يشعر قارئ هادي العلوي، بأنه يقرأ لمفكر ومناضل استغرقته كارثة الظلم الطبقي تماماً، حتى صار بناء مجتمع المساواة المشاعية بالنسبة له عملية إنقاذ عاجلة ولا تقبل التأجيل أو التأخير.
إنها، إذاً، قضية حياة أو موت استثنائية في نظره ونظريته، وتتعلق بكارثة إجرامية تجري أمام أنظارنا، حتى إنها تشبه كثيراً عملية طارئة لإنقاذ تلاميذ مدرسة تحترق. فأي كلام عن الظروف والنضوج الطبقي يستقيم وآلاف البشر يتساقطون كل يوم بل كل ساعة بسبب الجوع والعطش في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، فيما تغرق سبعة أو عشرة بلدان رأسمالية بخيرات الدنيا غرقاً حقيقياً لا مجازياً، فترسل الفائض منها إلى عادمات النفايات؟
السقف الذي بلغته تنظيرات العلوي بشأن المشاعية كخيار أخلاقي بالدرجة الأولى لا علمي، يتمثل في إنكاره لكون الاشتراكية والمشاعية حركات سياسية، أو ينبغي أن تكون سياسية، بل حددها وعرفها بكونها حركات اجتماعية لا علاقة لها بالسياسة، مع أنه يستدرك قائلاً إن وجود حزب شيوعي أو اشتراكي جذري في السلطة سيسهل أمام المناضلين الاجتماعيين المشاعيين كثيراً عملية قلب المجتمع الطبقي وتطبيق البرنامج المساواتي القائم على ركيزتي التراث العربسلامي والصيني، وعلى النظرية الماركسية الخاصة بالبناء والتحليل الاقتصادي الثوري.
من هنا انطلق العلوي في رحلة مضنية وعميقة بين تضاعيف التراث المشاعي «العربسلامي» والصيني، مخصصاً حيزاً كبيراً من بحوثه للثورات والتجارب المشاعية، كتجربة القرامطة بقيادة حمدان بن الأشعث في سواد العراق وامتدادها في الإحساء والبحرين بقيادة آل الجنابي والمجلس العقداني، أو في ثورتي الزنج والبابكية.
أما الحيِّز الآخر، ولعله الأوسع مساحة بحثية، فيتمثل في دراسته لتجربة التصوف الإسلامي بفرعيه، التصوف الاجتماعي المناضل المتذرون في تجربتي الحسين بن منصور الحلاج وعبد القادر الكيلاني، والتصوف العرفاني الفلسفي كما هو في تجارب البسطامي وابن عربي وابن سبعين. وقد خَلُصَ في خواتم بحثه إلى إرساء مصطلحات جديدة، عملية وبحثية، تتضمن رؤية جديدة حرية بأن تحمل اسمه ومنها مثلاً: «المثقف الكوني» المختلف جوهرياً عن مفهوم «المثقف العضوي» عند غرامشي. فمثقف العلوي الكوني كما يقول «يتميز بعمق الوعي المعرفي والوعي الاجتماعي معاً، وبعمق الروحانية التي تجعله قوياً على مطالب الجسد» (ص 158 من «حوار الحاضر والمستقبل»). وهو يأخذ على غرامشي أنه أدخل مثقفه العضوي في ساحات واشتراطات سياسية تبعده عن هموم الناس الحقيقية واليومية، لذلك فشل الحزب الشيوعي الإيطالي في اختراق الهيمنة الكاثوليكية ومنافستها في الشارع الإيطالي.
وفي تقنينه وتحديده لمفهوم «المثقف الكوني»، ذهب العلوي بعيداً فأعد قائمة بـ«الأبدال»، أي المثقفين الكونيين في كتابه، تقرأ من بينهم أسماء أبيقورس ولاوتسي ويسوع المسيح وماركس وأبو ذر الغفاري والحلاج وغوته وعبد القادر الكيلاني وآخرين غيرهم. والأبدال أو ضنائن الله مصطلح صوفي قديم صار يعني، بعدما عَصْرَنَهُ العلوي، «قوم صالحون يقيم الله بهم الأرض ويعطيهم صفة الأوتاد، يصارعون الفساد ويريدون الإصلاح للإنسانية، وقد تتعرض حياتهم للعديد من الشدائد وأعمارهم قصيرة ولكن نفوسهم تبقى على حالها من القوة والاستقامة وعمق التأثير».
بالعودة إلى آخر كتاب للعلوي في موضوع الثورات المشاعية الشرقية، نلحظ أن الراحل كان يطمح لأن يجعل من كتابه هذا أكثر من مجرد بحث ماركسي في التصوف والحركات المساواتية، لقد أراده بياناً عملياً لرؤية ثورية جديدة تحاول قراءة التراث المشاعي العربي والإسلامي، وتدمجه في آن واحد وبعمق برؤية ماركسية نابعة من أرض الواقع الاجتماعي، شريطة أن لا تكون مترجَمة وفوقانية، تنظر إلى هذا الواقع بعينين أيديولوجيتين ماركسيتين.
وفي ملحق خاص في نهاية الكتاب، نقرأ برنامج تلك الحركة متضمناً أهدافها ورؤيتها واسمها «الحركة المشاعية العراقية». وقد تعرض هذا الكتاب إلى ما يمكن تسميته مؤامرة صمت، إذ لم يجرؤ أحد، إلا ما ندر، على قراءته أو تحليله أو الاقتباس منه والاستشهاد به. وأنّى للأغيار الطبقيين، بلغة العلوي، أن يفعلوا ذلك مع كتاب يصفه مؤلفه بالقول «على أن هذا الكتاب في مجمله موجّه لتعزيز الوجدان الشيوعي عند أجيالنا الجديدة، لمساعدتهم في الخروج من حجاب العقيدة إلى فضاء الوجدان، ولزعزعة المألوفات التي تعلموها من الثقافة المترجَمة. فلكي يكون الإنسان شيوعياً جيداً يجب أن يكون له قلب شيوعي لا مجرد فكر شيوعي».
* كاتب وصحافي عراقي