حيدر سعيد *لا تزال مسألة العلاقة مع إسرائيل حسّاسة في الخطاب السياسي العراقي، على الرغم من أن المجتمع العراقي، في الأقل في ربع القرن الأخير، لم يعد آبهاً بهذه المسألة، أو لأقل على نحو أدق: لم يعد آبهاً بالقضية الفلسطينية وتطوراتها، ومن ثم، العلاقات مع إسرائيل، التي ترتبط بها ارتباطاً بنيوياً، وذلك لأن القضية الفلسطينية كانت عنصراً أساسياً في خطاب النظام الاستبدادي الذي حكم العراق لأكثر من ثلاثة عقود. نظام رأى العراقيون أنه يستعمل القضية الفلسطينية لكي يحقق حضوراً إقليمياً يقوّيه ويطيل في عمره، وأن التعبئة للقضية الفلسطينية التي يقوم بها تأتي على حسابه. ولذلك، كان ضعف اهتمامهم بها بمثابة ردّ فعل صامت على السياسات التي اعتمدها نظام البعث.
ومع ذلك، لا تزال مسألة العلاقة مع إسرائيل حسّاسة، فهي لم تخضع لتفكير جاد في العراق، وبالتالي، تبدو أية خطوة في هذا الاتجاه كأنها كسر مرتجل لما يُفتَرَض أنه جزء من ثوابت العمل السياسي العراقي. هذا فضلاً عن أنّ العراقيين يخشون من أن تُفهَم أية خطوة في هذا الاتجاه بأنها قدح في وطنية الحكم الجديد، الذي يسعى إلى إثبات وطنيته في محيط عارم من الشكوك، يبتدئ من أن العهد الجديد في العراق أُسِّس بيد أجنبية، ولا ينتهي بالتأثير الأميركي الحاسم في السياسة العراقية. ولذلك، كان أي حديث عن علاقة مع إسرائيل، في السنوات الخمس الماضية، حديثاً حرجاً بعدما كانت ثمة توقعات، سبقت إسقاط نظام صدّام حسين وأعقبته، بأن يرتبط العراق بعلاقات مميزة مع إسرائيل نتيجة طبيعية لدخوله في الحقبة الأميركية.
ربما كان الحديث عن العلاقات مع إسرائيل اختباراً لجس نبض الرأي العام العراقي في هذه المسألة الحسّاسة. ولكن الأهم من ذلك، أنه كان فرصة للديماغوجيا، فرصة لإثبات «الوطنية»، بالشعارات، والهتافات، واستعادة البلاغة الثورية الكلاسيكية لأحزاب الخمسينيات والستينيات، فرصة لأن يُثبِت من يُقدَح في وطنيته أنه وطني.
هنا، أستعملُ كلمةَ «وطنية» بالمعنى التقليدي الذي تُستَعمل فيه في السياق السياسي العراقي، الذي تمثّل مناهضة إسرائيل فيه أحد الأركان الأساسية للوطنية. وبالتأكيد، أنا لا أفترض أن «الوطنية» تتحدد بالموقف من إسرائيل أو من القضية الفلسطينية.
الوحيد الذي جرُؤ على فتح مسألة العلاقة مع إسرائيل، من دون حرج علناً، هو مثال الآلوسي، السياسي العراقي الذي زار إسرائيل للمرة الثانية الأسبوع الماضي.
زيارة الآلوسي الأولى لإسرائيل كانت في شهر أيلول 2004 لحضور مؤتمر عن مكافحة الإرهاب. حينها كان مديراً عاماً في «هيئة اجتثاث البعث»، وقيادياً في حزب أحمد الجلبي، «المؤتمر الوطني العراقي». أصبح الآلوسي، بعد تلك الزيارة، فرصة مثالية لأن تستيقظ الديماغوجيا، لأن يُثبت حزبُ الجلبي، المتهم بصلات مع إسرائيل، وطنيتَه، ففصل الآلوسي.
أصبح الآلوسي كبشَ الفداء، ضحية على مذبح بقاء الجلبي في المشهد السياسي، طاهراً، أبيض، وإن لم يدم ذلك طويلاً.
أما اليوم فالآلوسي عضو في مجلس النواب، بل هو العضو الوحيد الذي انتُخِب لشخصه، لا لأنه يعبّر عن كتلة، أو قائمة، أو طائفة، أو إثنية. ولم تقلّل زيارته لإسرائيل من حظوظه السياسية، وهذا، أتصوّر، مصداق قلة عناية الجمهور العراقي بمسألة العلاقة مع إسرائيل.
واليوم أيضاً، تتكرر القصة نفسها: الآلوسي يزور إسرائيل لحضور دورة أخرى من المؤتمر نفسه، وتتكرر الديماغوجيا. ولكنها، هذه المرة، لم تصدر من حزب، ولا من زعيم سياسي، بل من المؤسسة السياسية العراقية الأولى: مجلس النواب، الذي قرّر بالأغلبية رفعَ الحصانة عنه تمهيداً لمقاضاته بسبب «مخالفته الدستور» بزيارته تلك، على نحو ما قال أعضاء مجلس النواب.
وبعيداً عن الدخول في التفصيلات القانونية (هل تمثل الزيارة، فعلاً، خرقاً للدستور؟ هل هي جناية؟ وهل يمكن مقاضاته ورفع الحصانة عنه بسببها؟ ما هو الإطار أو التسويغ القانوني لذلك؟ أية مادة في القانون العراقي تجرِّم هذه الزيارة؟ وتحت أي باب؟)، كانت هذه الزيارة فرصة لأن تُثبِت الكتلُ المسيطرة على البرلمان وطنيتَها، وهي المجروحة بأنها أتت إلى حكم العراق بأيد أجنبية. وكانت جلسةُ مجلس النواب، التي صوّت فيها على رفع الحصانة عن الآلوسي، المليئة بالتصفيق، والخطب، والهتافات، والحماسة، وأكبر قدر ممكن من عبارة «الكيان الصهيوني»، فرصة لأن تتجمل هذه الكتلُ بالشعار الوطني، لأن تستعيد ما تشعر أنه عقدة نقص فيها: الخطاب الوطني الكلاسيكي.
مجلس النواب، الذي يتورط عدد من أعضائه بإدارة جرائم قتل وتهجير وسرقة وتحريض على العنف، ولم يجرؤ على رفع حصاناتهم وتعليق عضوياتهم وتقديمهم للقضاء، وجد في رفع الحصانة عن الآلوسي فرصة لأن يكتشف (ويثبت) كم هو وطني.
أما مثال الآلوسي فلم يتعلم الدرس، وجعل من نفسه متنفساً للديماغوجيا مرة ثانية، وساحة للمزايدات.
دخل الآلوسي، بزيارته إسرائيل، معركة غير مبررة، لا تبررها المصلحةُ التي يؤمن بها، والمتولدة من الطريقة التي يفهم بها الثنائيات المتعارضة التي تتحكم وتؤثر في الوضع العراقي (إسرائيل / إيران، أميركا / إيران، إسرائيل / القاعدة، إسرائيل / البعث، إسرائيل / الأنظمة الثورية العربية). هنا، وبحسب قراءة الآلوسي، يبدو أن ثمة نظام مصالح متماثلاً بين العراق وإسرائيل، فكل أعداء العراق الجديد، على نحو ما يؤمن به الآلوسي، هم أعداء لإسرائيل، ولا سيما إيران. ولذلك، يمكن أن يرتبط العراق بشراكة استراتيجية مع إسرائيل لمواجهة إيران.
قد يدل رفع الحصانة عن الآلوسي على فشل العراق في إحداث تغيير عميق في علاقاته الخارجية. وقد يدل على حجم الاستثارة التي شعر بها حلفاء إيران في العراق، وهم يرون الآلوسي يريد أن يسحب العراق ويجعله في خندق واحد مع إسرائيل في مواجهة إيران.
هذه القضية وضعت الآلوسي، لأول مرة، في مواجهة مكشوفة مع الإسلاميين الشيعة، بعد سنوات من علاقة غير واضحة.
ولكن، كيف يمكن أن نرتبط بشراكة مع إسرائيل ونحن لا نزال ننظر إلى اليهود بوصفهم كائنات نجسة، شتيمة، مجرد شتيمة؟ ألا تدل تجربة ثلاثة عقود من العلاقات العربية ـــ الإسرائيلية على أن هذه العلاقات، من دون استعداد وتطبيع سياسي واجتماعي شاملين وواعيين، لا تعني شيئاً؟
قد يكون الآلوسي أراد بهذه الزيارة أن يرسل رسالة للإدارة الأميركية، أو أن يعزز خطاً أميركياً في السياسة العراقية، ولكنه وضع العلمانيين العراقيين، وهو واحد من وجوههم، في مواجهة معركة لم يحن زمانها، ولم تكتمل شروطها وأدواتها.
أؤمن بأن مجتمعاتنا بحاجة إلى رجّات من هذا النوع، ولكن، في أي سياق؟ وتحت أي ظرف؟ كيف نبني علمانية لا تستجيب للصورة التي يبنيها المخيالُ الشعبي عن العلمانيين: أنهم متغربنون، دعاة انحلال وفساد، وحلفاء لإسرائيل؟ ولا تفسر، بالضرورة، التصور السائد عن العلمانيين الليبراليين العراقيين بأن أول كلمة ينطقونها حين يولدون هي إظهار أن لا مشكلة لديهم مع إسرائيل؟ أؤمن بأننا بحاجة إلى نقد «الثوابت الوطنية» التي تحكم خطابنا السياسي، ولكن، لا ينبغي للوطنية التي نطمح إلى صناعتها أن تكون رد فعل، ولا لعلمانيتنا أن تكون مجرد انتقام. لا ينبغي أن نبتكر معارك صغيرة، خاسرة، نصبح فيها مجرد عملاء، ويكلَّل الديماغوجيون بالوطنية.
كان السادات زعيماً تاريخياً، لأنه أقدم على خطوة تاريخية وراديكالية بتوقيع معاهدة سلام وإقامة علاقات مع إسرائيل. ولكن، لكي تكون زعيماً تاريخياً، ينبغي أن تمتلك أدوات إحداث انقلاب راديكالي، سياسي، أو مفهومي، أو ثقافي، أو مجتمعي. من دون هذه الأدوات، تصبح أية خطوة نحو انقلاب راديكالي ضرباً من الرعونة.
* كاتب عراقي