كالنبتة البريّة طلعت من مجتمع محافظ. في عمّان أقامت علاقة حميمة مع الحجر بين الآثار الرومانيّة... وفي باريس تبلور وعيها أيام الثورة الطلابيّة، وعرضت مع بيكاسو وجياكوميتي... وفي بيروت استقرّت الفنّانة الأردنيّة التي تُعتبر أحد وجوه الحداثة العربيّة

نوال العلي
مزاجها الصعب مقدود من حجر، الكلام تقوله بالقطّارة، تجيب باقتضاب وتتجنب الخوض في الخصوصيّات، امرأة مغلقة كدائرة. تعيش النحاتة منى السعودي في منزل لبناني قديم في حي الورديّة في بيروت التي اتخذتها مستقراً منذ 1969. البوابة الصفراء مفتوحة دائماً. أما الممر المغمور بورق الأشجار، فسيفضي إلى حديقة صغيرة وطاولة بأربعة مقاعد. يبدو أنّ الأصدقاء يقتحمون عزلتها أحياناً، ويشاركونها السهر إلى جانب منحوتاتها المتناثرة في الحديقة. لكن منى في وحدتها حشدٌ كثير، تعيش مع «امرأة مجنحة» و«عاشقة» و«شجرة النون» هذه بعض من أسماء أعمالها التي تسكن البيت، بل تشغل الحيز الأكبر منه.
أحقاً يمكن أن يقال عنها إنها ابنة عمّان؟ علاقة غريبة بعض الشيء تلك التي تربطها بالجغرافيا، علاقة قديمة تعود إلى رحلة آل السعودي القادمين من الحجاز في طريقهم إلى التجارة، هناك مَن ظل في جنوب الأردن، وهناك مَن مضى إلى الشام... ومنهم عائلة منى. ترك آل السعودي دمشق في نهاية القرن التاسع عشر واستقروا حول سبيل يخترق «ربة عمون» (عمان) إنّه «سبيل الحوريات»، حيث تنتشر المنحوتات والتماثيل كأنّها محض حجارة ملقاة في هذا الموقع الأثري الذي يتوسط المدينة الوليدة وفيه ساحة المدرج الروماني.
كانت الطفلة منى، ابنة العائلة «المتدينة والتقليدية» قد وجدت لها سبيلاً آخر: التنزه بين تلك الآثار ثم اتخاذ الدروب الترابية التي تمر من الجبال والكسّارات وهي في طريقها إلى المدرسة، تبتعد عن الطرق المألوفة المعبدة، وتقترب من البراري البعيدة: «كان لدي شعور عميق بأنّني ابنة الأرض، لم يمسّني الدين ولا التقاليد، كنت أنمو في حلم آخر غامض وبعيد»، هكذا تكتب تقول السعودي في كتابها «أربعون عاماً في النحت» وتحكي فيه عن حياة ربتها وكبّرتها في الفن.
لم يكن سهلاً لتلك الفتاة أن تكون نبتة بريّة إلى هذه الدرجة. وفي هذا الوسط المتزمت، كانت ترسم وتحاول أن تكتب الشعر وتقرأ كثيراً لطاغور وإليوت. أما «اللامنتمي» لكولن ولسن فأحد الكتب التي تركت أثراً في شخصيتها. وبدأت منى تحلم بالسفر إلى عالم أرحب، بل إنّها قررت ذلك وحددت بوصلتها: باريس هي ما تسعى إليه. ولكن كيف؟ ووالدها يمنعها من الذهاب حتّى إلى دمشق للالتحاق بجامعة مختلطة؟ تم ذلك بالاتفاق مع شقيقها المتنوّر... حزمت أمرها على الخروج إلى العالم الذي تبحث عنه، خفيةً عن والدها. إنه هروب من عالم ضيق إلى الرحابة رغماً عن كل شيء.
هكذا، توجهت إلى بيروت أولاً، ومن البحر يممت شطر فرنسا. من هناك ستبعث برسالة إلى والدها تطلب منه أن يتفهّم تعلقها بالفن. وستتم المصالحة بشرط أن تعود منى في العطلة للزيارة، هكذا تحمي عائلتها من ألسنة الناس... ولا يقولون إنّها فرت إلى باريس رغماً عن ذويها!
الوصول الأوّل إلى بيروت كان سنة 1963. بيروت المدينة التي كانت ترسل إليها القصائد بالبريد من عمّان، ولما تتجاوز السادسة عشرة، لتنشر في مجلة «شعر». قدّمت نفسها ليوسف الخال وأنسي الحاج في أحد المعارض، فقال الأول: هناك صبيّة بالاسم نفسه ترسل لنا قصائد من الأردن. «أنا هي» أجابت. وفي إحدى أمسياته طلب يوسف الخال من أنسي الحاج إحضار قصائد منى. ولأنها كانت خجولة، تولّى أنسي بنفسه قراءة القصائد... أحد أصدقائها يقول إنّ الشابة الجميلة والمختلفة، كانت تبدو تلك الفترة «مكتفية بذاتها، إنها من النوع الخطر بالنسبة إلى الرجال. فهي تظهر بمظهر القوة، كأن لا شيء ينقصها. كان المرء يشعر بالضعف أمامها، لكونه لن يضيف إليها شيئاً».
لكن بيروت، آنذاك، لم تكن سوى محطة. فيها اكتشفت النحت الحديث لأول مرة عبر أعمال ميشال بصبوص في راشانا. وأقامت معرضها التشكيلي الأول في «مقهى الصحافة»، والتقت بمثقفين سيصيرون «أصحاب العمر» على حد تعبيرها: أدونيس، ونزيه خاطر، وحليم جرداق، وبول غيراغوسيان. ومن مبيعات المعرض، ابتاعت بطاقة سفر وركبت السفينة من ميناء بيروت إلى الإسكندرية فصقلية، وصولاً إلى مرسيليا. ومن هناك بالقطار إلى باريس: «كانت رحلة أسطورية، النوارس البيضاء ترافقنا ليلَ نهار... وصلت باريس مع ضوء النهار. أحسستُ بأني أولد من جديد». ومن المدرسة العليا للفنون الواقعة على ضفة السين، حيث التحقت السعودي لدراسة النحت، كانت تجتاز الجسر إلى متحف اللوفر، لترى قطعاً فنية تدرك أنّ نحاتيها قادمون من الشرق، من حيث جاءت هي جامحة لتبحث عن نفسها. آثار ومسلات سومرية وفرعونية ونبطية. كل هذا بوجود الفن الحديث والمدارس الجديدة المجنونة في التشكيل والأدب. هنا نحتت منى أول أعمالها «أمومة الأرض» المستوحى من نكبة فلسطين، وشاركت في معرض «صالون أيار» في متحف الفن الحديث في باريس، وهو ملتقى سنوي لعرض إنتاج فنانين معاصرين أمثال بيكاسو وجياكوميتي.
صيف 1967 توجّهت إلى كرارا، مدينة الرخام في إيطاليا: «هناك تعلمت من العمّال المهرة أسرار استعمال الإزميل والمطرقة الهوائية وصقل الرخام». ولدى عودتها إلى باريس في العام التالي، كانت الثورة الطلابية قد اندلعت. اندمجت السعودي في تظاهرات الحي اللاتيني، وتغيّر وعيها السياسي... صارت تفكر في الفن وعلاقته بالسلطة والمجتمع والتغيير، وقررت العودة من حيث أتت، فيمّمت مجدداً شطر بلاد الشمس.
فترة قصيرة في عمان التي عادت إليها في خريف 1968، لتعمل مع أطفال مخيم البقعة. تمخّضت التجربة عن كتاب بعنوان «شهادة الأطفال في زمن الحرب»، صدر في بيروت التي استقرّت فيها، ولم تغادرها إلّا بعد انقضاء الحرب. «أمام هذا العنف الذي لم تكن تبدو له نهاية، غرقت أكثر فأكثر في النحت، كأنّ مواصلة العمل كانت الرد الأعمق على العنف. وكان لا بد من الأمل في الظلام».
سنوات قليلة أمضتها السعودي في مسقط رأسها عمّان (1983 ــــ 1992)، لم تتمكّن خلالها من الانسجام مع المحيط. شعرت بأن الجو الثقافي نفسه مليء بأشخاص يحاول كلّ منهم تجسيد سلطة فنية بلا معنى. وذات يوم، اضطرت للتخلّي عن البيت والمحترف اللذين أسستهما هناك، من جراء «إشكالات اجتماعية ومادية».
اليوم، ما زالت السعودي مشغولة بنحت أمومة الأرض، تحب كل أنواع الحجر... لكنها مفتونة بالأخضر «اليشب» خصوصاً، وتحلم بتأسيس متحف في بيروت تودعه أعمالها. لم لا؟ لقد وهبت نفسها للحجر، وهي تقضي جُل ساعات نهارها بين عوالمها الحجرية تفض أسرارها. إنه فنّ النحت الذي «يتطلّب العزلة والتخلّي والسفر في الداخل».


5 تواريخ

1945
الولادة في عمّان
1970
ديوانها الشعري الأول «رؤيا أولى»
1975
أقامت معرضاً مع بداية الحرب الأهلية في بيروت لمجموعة رسوم من وحي قصيدة طويلة لأدونيس: «مفرد بصيغة الجمع»
1987
أنجزت «هندسة الروح»، منحوتتها المستوحاة من الأنصاب النبطية، وهي موجودة في الباحة الخارجيّة لـ«معهد العالم العربي» في باريس
2006
أصدرت «أربعون عاماً في النحت»، وهو كتاب فنّي ضخم يتضمّن فصولاً من سيرتها ونماذج من أهمّ أعمالها